سارقو النار

حل وترحال
04:23 صباحا
قراءة 3 دقائق
جودت فخرالدين
هل بات ضرْباً من الشجاعة أنْ يُصْدِرَ شاعرٌ عربيٌّ (حديثٌ) ديواناً له يحتوي على قصائدَ عمودية؟ ألم ترسخْ لدى كُتّاب الشعر عندنا، ولدى المعنيين بشأنه نُقّاداً أو باحثين أو قُرّاءً، قناعةٌ بأنّ الشكلَ العموديَّ للقصيدة قد استُنْفِد، وبأنه لم يعُدْ ملائماً للعصْر؟
الشاعر عبدالقادر الحصْني خطا الخطْوةَ الجريئة، وأصدرَ ديواناً جديداً عنوانه "سارقو النار" (منشورات الحركة الثقافية في لبنان، 2014) . يحتوي الديوان على اثنتي عشرة قصيدة، وسارقو النار هم الشعراء الذين أهدى الحصْني قصائدَهُ إليهم . والأرجح أنّ معظم هذه القصائد قد نُظِمت لتُلْقى في مناسباتٍ أو مهرجاناتٍ شعرية . وقد يكون في ذلك عاملٌ من العوامل التي دفعت الشاعر إلى تبنّي الشكل العمودي في معظم هذه القصائد .
أيّاً كان السبب أو المناسبة، فالقصيدة العمودية لدى الحصْني في هذا الكتاب (جديدة) . والكلام على جِدَّتها من شأنه أنْ يُعيدَ طرْحَ الأسئلة المتعلِّقة بشكل القصيدة . ولكنْ على نحْوٍ من التعمُّق والتجرُّد، أي على نحْوٍ يتخطّى السجالات السطحية أو المفتعَلة التي شاعتْ في العقود الأخيرة المنصرمة، والتي دارتْ حول تصنيف الكتابات الشعرية إلى قصائد عمودية، وقصائد تفعيلة، وقصائد نثر .
قصائد الحصْني العمودية في كتابه الجديد تقول: لا معنى لذلك التصنيف . أو بصيغةٍ ثانية: إنه تصنيفٌ لا يتمتّعُ بالمسوّغات الفنية الكافية . فالشعر لا صلةَ له بتحديداتٍ (شكلية) مسْبَقة، كالعمود أو التفعيلة أو النثر . وهنا لا يتّسعُ المجالُ للإسهاب في الكلام على مفهوم "الشكل" وعلى استعمالاته الملتبِسة في الأدبيات العربية الحديثة . فالشكل (وهو مصطلحٌ مقتبَسٌ عن الغربيين) ليس خارجياً، ليس مظهراً أو سطْحاً أو قشرةً، وإنما هو - كما جاء في النظريات الغربية الحديثة - مجموعُ العلاقات بين مختلف العناصر التي يتكوّنُ منها النصّ، بما فيها تلك المتعلقة بالمعاني أو الأفكار أو التصوّرات، أو كلّ ما ينضوي تحت مصطلح "المضمون" .
الشكلُ إذاً هو النصُّ بمجمله . وتالياً لكلِّ نصٍّ شكلُهُ . بكلمةٍ ثانية : لكلِّ قصيدةٍ شكلُها الخاصّ . والشكل، من جهةٍ ثانية، يختلفُ عمّا استعملهُ النقّادُ العربُ القدامى من مصطلحاتٍ : كالمبْنى، أو الديباجة، أو اللفظ . . . إلخ .
وها هو عبدالقادر الحصْني يقدِّمُ لنا الشعرَ في قصائدَ عموديةٍ في كتابه الجديد . فماذا لو وجدَها القارئُ أكثرَ جِدّةً من الكثير الكثير من القصائد (الحديثة)، أي التي تُكتَبُ باسم الحداثة؟
إنه، إذْ يجدُها قصائدَ جديدة، إذْ يمكنُهُ وصْفُها بالقصائد العمودية الحديثة، إنما يراها جديدةً في مستوييْن: أولاً بالنسبة إلى تراثنا من الشعر العمودي، وثانياً بالنسبة إلى النماذج الجيِّدة فيما تراكمَ من كتاباتٍ شعريةٍ على مدى أكثر من ستة عقود . وليس لمن أرادَ التأمُّلَ في هذه القصائد، لتبيُّنِ مزاياها الفنية، إلا أنْ يتبصَّرَ في نوعية العلاقات التي تهيّأ للشاعر أنْ يقيمَها بين التراكيب النحْوية والصُوَر البلاغية والتشكيلات العروضية . . . وغير ذلك من العناصر .
نورِدُ من القصيدة الأولى، وعنوانُها "توضيحٌ لا بدَّ منه بين يديْ أبي العلاء المعرّي"، هذه الأبيات:
 كلانا، إذاً، مسْتوحِشٌ ومنفَّرٌ
                  ويُسْقى بكأسٍ مُرّةٍ أيَّ إمرارِ
ولكنَّ فرْقاً بيننا أنّ شيخَنا
                 أقامَ طليقاً بين دارٍ وديّارِ
وأنّي بأقفاصٍ أدورُ ولو بدتْ
               على تلكمُ الأقفاصِ أشكالُ أمصارِ
ومن القصيدة الثانية، وعنوانُها "نزار قباني معلَّقةُ دمشق"، نوردُ الأبيات الآتية:
هي لا أقولُ الحُسْنُ في ريعانِهِ
                  لا سِحْرُها منه ولا أطيابُها
هي قُلْ بأنّ الحُسْنَ صوَّرَ نفسَهُ
                 منها وصارَ حضورُهُ يغتابُها
ويقولُ عنها إنّ سبعةَ أنهُرٍ
                 عُشّاقُها ابتلّتْ بهمْ أثوابُها
هذه المقالة هي دعوةٌ إلى قراءة ديوان عبد القادر الحصْني، الذي قدّمَ إلينا الشعرَ متجاوزاً تلك التنظيرات الكثيرة التي سعتْ إلى تحديده أو تصنيفه . إنّ هذا الديوان - نظراً إلى جِدّتِهِ - هو دعوةٌ إلى نبْذِ التزمُّت أو التعصُّب . . . في الشعر وفي غيره . وهل ينبغي لنا في الشعر أنْ نتعصَّبَ للوزن أوضدَّهُ، للعمود أو ضدَّهُ، للنثر أو ضدَّهُ؟

[email protected]
_

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"