مستقبلات عربية

04:59 صباحا
قراءة 4 دقائق
جميل مطر

عشت بعض سنين حياتي بين العرب. قابلت سياسيين من كل لون، وطعم، ورائحة، قابلت سياسيين في الحكم، وسياسيين في المعارضة. سمعت من كبارهم وصغارهم على حد سواء، نظريات في التقدم والمستقبل تفوق في العدد وسعة الخيال كل ما سمعت من أقرانهم في دول أخرى زرتها. رأيتهم وهم يحتفلون بانتصارات بعضها من صنع خيال إعلاميين، وخيالهم، ورأيتهم في لحظات انكسار، كنت شاهداً على شعوب مؤمنة بما اختاره حكامها، وشاهداً أيضاً على شعوب، وأحياناً هي نفسها، غير راضية عن حكامها، وأحياناً عن الحكام أنفسهم الذين سبق وحصلوا على الرضا.
جاء وقت عرفت فيه كثيراً من السياسيين في الحكم، أو خارجه، يخفون عن عمد هوياتهم الأولية، أو عن حق لا يهتمون بها. قليلون، باستثناء ساسة لبنان، كانوا واثقين بأن التمسك بالهويات الأولى في خطابهم السياسي، أو في تصرفاتهم الشخصية عقبة في وجه صعودهم. للحق يجب أن نعترف بأن معظم سكان هذا الإقليم اختاروا في لحظة معينة صفة العروبة تأكيداً لنيتهم الاستقلال عن النفوذ التركي المنكسر على كل حال، وصداً للنفوذ الغربي الزاحف بإصرار والمحتل أراضيهم. اجتمع هؤلاء السكان على أن تكون صفتهم عربية، وقرر الحكام في لحظة تاريخية أن يقيموا منظمة إقليمية تحمل هذه الصفة تأكيداً لالتزامهم هذه الهوية. خافوا على استقلالهم الوليد وسلطتهم فوضعوا في مواثيقها وتقاليد عملها العديد من القيود التي تضمن بقاءها عند الحد الأدنى، لا تتجاوزه.
أستطيع القول إن الجامعة تمر الآن، رغم كل الجهود الصادقة، بمرحلة صعبة أعتقد أنها لن تخرج منها سليمة. تأكدنا ونحن نراقب انحدارها على مر السنوات الأخيرة أنها لم تكن مزودة بالحصانة اللازمة للتعامل مع أوضاع خلفتها أحداث ما يسمى «الربيع العربي».
ومع ذلك، استمرت الجامعة العربية موجودة، وإن محددة الوظائف، ومقيدة التصرفات، ولكنه الاستمرار الذي يحمل في طياته مختلف الاحتمالات، هي احتمالات معتمدة على احتمالات مماثلة بدأ بعضها يواجه النظام الإقليمي نفسه. سمعت مسؤولين من العرب يحتجون على كثرة تردد سؤال بعينه من باحثين وإعلاميين. هؤلاء يسألون عن موقف الدول العربية من الجامعة العربية في حال وجدت هذه الدول مصلحة لها في أن تكون لاعباً في نظام إقليمي آخر، شرق أوسطي مثلاً. أو في حال قررت إقامة مشروعات تكامل اقتصادي دولية أو إقليمية، تأتي على حساب مشروعات تكامل عربي، وإن متوقفة. أو في حال الدخول في حلف عسكري، أو نزاع مسلح طويل الأمد مع دول من خارج المنظومة العربية، وينتج عنه تهديد مباشر لأمن واستقرار دول أخرى في داخل هذه المنظومة، دول لم تستشر، ودول لم يحسب حسابها.
إقامة نظام إقليمي جديد، أو تحديث نظام قائم، مهمة ليست هينة، ولدينا في تجربتي الاتحاد الإفريقي والاتحاد الأوروبي ما يكفي لإقناع المترددين. مبدئياً، يحتاج الأمر إلى تحقيق شروط، من بينها ما هو غير متوافر في الوقت الراهن، ولن يتوافر بالبساطة التي توفر بها عند إنشاء جامعة الدول العربية. من هذه الشروط:
* أولاً: وقف الاشتباك الناشب بين الهويات لمصلحة هوية النظام الجديد قبل الانضمام إليه. لن ننسى أن العرب أجمعين دفعوا ثمناً باهظاً حين أدى الاشتباك العنيف بين هويتين في العالم العربي خلال الحرب الباردة العربية بين من سموا وقتها بالتقدميين والمحافظين، إلى شل الجامعة العربية وتعطيل مسيرة التكامل والأمن القومي.
* ثانياً: استعادة كينونة الدولة، وثقتها بنفسها، ومستقبلها وكلها أضيرت في مرحلة العولمة ضرراً جسيماً.
* ثالثاً: وقف تخبط، أو تضارب السياسات الاقتصادية للدول المرشحة لعضوية النظام. لقد كان من أسباب ضعف النظام الإقليمي العربي، وانحداره المتسارع في السنوات الأخيرة، تنفيذ دولة، أو أكثر مشاريع إصلاح اقتصادي اعتمدت التقشف، وتوصيات المؤسسات الدولية.
* رابعاً: الانتباه إلى ضرورة تسوية النزاعات بين دول الإقليم، خاصة تلك النزاعات التي تثير قضايا هوية، أو مشكلات تتعلق بظروف النشأة.
* خامساً: تفادي عسكرة النظام الإقليمي الجديد، أو القديم، في حال اتخذ قرار تجديده. أقصد بالعسكرة انشغال حكومات هذا النظام الإقليمي بدرجة فوق المألوفة بالأمور العسكرية، مثل سباقات التسلح، وبناء جيوش المرتزقة، والتدخل عسكرياً خارج الحدود، والسماح لدول أجنبية بشن حروب بالوكالة، أو حروب مباشرة.
أظن أنه بات مفهوماً أنه لا فلاح لمشروع تكاملي، أو تحديثي لم يبذل فيه العمل المدني الجهد المناسب والإبداع العلمي الضروري. بات مفهوماً أيضاً أنه لا انتصار نهائياً وحاسماً في مشروع لم يشترك في التحضير له العمل المدني، وبخاصة السياسي.
أسئلتنا إلى المسؤولين عن مستقبل النظام الإقليمي العربي وجامعته العربية كثيرة، وصعبة. بأي حال، لا يجوز أن تكون كثرتها، أو صعوبتها عذراً يمنع المصارحة حول آمال الطبقة السياسية العربية في مستقبل النظام العربي، بمعنى آخر عذراً يمنع الحديث المكشوف عن مستقبل العرب، مستقبلي، ومستقبلك.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دبلوماسي مصري سابق وكاتب متخصص بقضايا العلاقات الدولية. اشترك في تأسيس مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بمؤسسة الأهرام. وأنشأ في القاهرة المركز العربي لبحوث التنمية والمستقبل. عضو في مجلس تحرير جريدة الشروق المصرية ومشرف على صفحة الرأي

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"