غنى وفقر فاحش تحت سقف فرنسي واحد

03:55 صباحا
قراءة 4 دقائق
فيصل جلول

نشرت جريدة «لو زيكو» الاقتصادية الرصينة دراسة استطلاعية، مطلع الأسبوع الجاري تؤكد أن نصف الفرنسيين، يشعرون بأنهم مهددون بالفقر. كان هذا الشعور سائداً من قبل لدى نسبة أقل من المواطنين إلا أنه تفاقم بعد الأزمة الاقتصادية عام 2008 التي كانت بمثابة كابوس، أيقظ فئات واسعة من سباتها ومن رهانها على قوة وثبات مجتمعات الرفاه.
وتشير الدراسة إلى أن 50 في المئة من الفرنسيين الأكثر فقراً، امتنعوا عن علاج أسنانهم لتقليص النفقات ، وأن 39 في المئة من الفرنسيين الأكثر فقراً امتنعوا عن استشارة أطباء العيون، وتبين الدراسة أن 48 في المئة منهم لا تحتفظ بأطعمة صحية مناسبة. وأفاد 53 في المئة منهم أنهم لا يستطيعون تغطية تكاليف الضمان الطبي الإضافي.
وتقول الدراسة المستندة إلى معطيات مؤسسة «النجدة الشعبية» إن 55 في المئة من الفرنسيين يشعرون بأن الفقر يهددهم، وترفع النسبة إلى أكثر من 80 في المئة من الذين يعتقدون أنهم غير قادرين على ضمان عدم سقوط أبنائهم تحت خط الفقر.
وتظهر دراسة أجريت عام 2013 أن طفلاً من بين كل خمسة أطفال يعيش في فرنسا تحت خط الفقر. وتفيد دراسة أخرى أن المجتمع الفرنسي يحتل المرتبة 19 بين الدول الأكثر استهلاكاً لمهدئات الأعصاب في العالم، ويحتل المرتبة ال20 في مستوى التعليم، وتعجز فرنسا عن الوصول إلى مرتبة الدنمارك في نسبة غنى البلد وانعكاسها على المواطن بل تنحدر إلى مراتب أدنى.
لقد سجلت هذه الإحصاءات الاستطلاعية في بلد ثري يحتفظ بالمرتبة السادسة في هرم الاقتصادات العالمية، ويصل دخله القومي إلى 2488 مليار دولار سنوياً ، ويعتبر الأول في العالم في المجال السياحي ويحتل موقعاً مهماً في المراتب الأولى في الإنتاج والتصدير.
والسؤال الذي يطرح نفسه بقوة هو: كيف يمكن أن يجتمع هذا القدر الكبير من الغنى في بلد واحد، مع هذا القدر الكبير من الخوف والقلق من الفقر، فضلاً عن نسبة الفقر المرتفعة بالقياس إلى الدول الأوروبية أو أقله بالنسبة إلى الدول الست الأولى في العالم.
الرد على السؤال يستدعي إجابات متناقضة، الأولى مصدرها ليبرالي تقول إن على فرنسا أن تتخلى عن آلتها البيروقراطية الهائلة التي تتعدى ال5 ملايين موظف في بلد تعداد سكانه يصل إلى 66 مليون نسمة ، ويجب أن تتخلى عن دولة الرعاية التي تصرف 32 في المئة من دخلها على البطالة والمساعدات الاجتماعية، وأن تترك السوق يعيد تنظيم المجتمع، بما يتناسب مع حاجته، أي السير على خطى مرغريت تاتشر في بريطانيا.
لا يجرؤ أحد في فرنسا، حتى اليمين الليبرالي، على اعتماد هذا الحل، بسبب تكلفته الاجتماعية الباهظة ، وبسبب المخاطرة بخلق اضطرابات اجتماعية قد تمتص الآثار الإيجابية لتحرير الاقتصاد وسوق العمل من الضوابط، وقد حاول الرئيس السابق ساركوزي اعتماد هذا الحل جزئياً ، فكان أن خذله الناخبون وخسر التنافس مع الرئيس الحالي فرانسوا هولاند.
والإجابة الثانية مصدرها اليمين المتطرف الذي يدعو إلى الانسحاب من الاتحاد الأوروبي وطرد الأجانب المقيمين بصورة غير شرعية والعاطلين عن العمل، وإقفال باب الهجرة الأجنبية إلى فرنسا.. إلخ.
يحتاج هذا الحل إلى تغيير بنيوي في النظام السياسي الفرنسي، لا يمكن قياس كل آثاره السلبية مسبقاً ، ولكن الخبراء يجمعون على احتمال انهيار الاقتصاد الفرنسي الذي يعتمد في بعض وظائفه الأساسية على اليد العاملة المهاجرة والرخيصة، التي تلعب دوراً مزدوجاً في الاقتصاد والديموغرافيا.
الإجابة الرابعة من اليسار المتطرف الذي يدعو إلى إعادة بناء الاقتصاد، بحيث يصبح مفيداً للطبقات المسحوقة وهي الغالبة، بيد أن هذا النوع من الحلول بات متعذراً بسبب تداخل المجتمعات والبلدان وبالتالي صار من الصعب أن تبني اقتصاداً محلياً مقطوعاً عن بيئته وشركائه.
والإجابة الرابعة تنص على اعتماد إصلاحات واسعة مع إلحاق الحد الأدنى من الضرر بالفئات الدنيا في المجتمع، وهو ما أقدم عليه اليسار في الحكم من قبل، لكنه لم يفض إلى حل جذري لمشكلة مزمنة بل أدى بنظر الخبراء إلى اتساع الفئات المهددة بالفقر.
إن اليمين واليسار في فرنسا يخضعان لقواعد حكم لا يستطيعان شيئاً كبيراً تجاهها، وأن لا تغيير جذرياً يرتجى من هذا الجانب أو ذاك، مع استثناء وحيد يكمن في إجراءات اتخذها فرانسوا هولاند وهي المسؤولة بين أسباب أخرى عن تدهور شعبيته، ولعل الإجراء الأهم يكمن في تحرير سوق العمل من العقود الطويلة بلا أجل محدد، والتي تعطي العامل أو الموظف ضمانة كبيرة في مواجهة عسف رب العمل وتحد من قدرته على التخلص من العامل ساعة يشاء.
إن تحرير عقود العمل ينطوي على سابقة مضرة بالمستخدمين والعمال على نطاق واسع ولعلها المدخل نحو ليبرالية واسعة يسميها هولاند اشتراكية ديمقراطية.. وتستحق وصف.. المنافقة!

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"