لا قضيّة إلاّ فلسطين

04:55 صباحا
قراءة 3 دقائق
كمال بالهادي

قراءة ما يحدث هذه الأيام في منطقتنا، خاصة في القدس الشريف، وكل أرض فلسطين عموماً، لن يكون ذا فائدة إن لم نطّلع على تاريخ هذه المدينة الطويل الذي يعود إلى نحو 6 آلاف سنة، أي قبل نزول التوراة بأكثر من ثلاثة آلاف سنة كاملة. إنّ تصفّح تاريخ القدس سيقودنا إلى جملة من الاستنتاجات الجليّة، والواضحة، وملخّصها أنّ القدس هي عنوان نصر لمحيطها، أو هي عنوان هزيمة، وانكسار لذلك المحيط، وقد كانت حقب التّاريخ حافلة بهذين العنوانين، ولعلّنا نعيش في هذه الأيّام، حقبة الهزيمة والانكسار، وهي حقبة لا بد أن يليها النّصر.
في تاريخ المدينة المقدّسة عِبر كثيرة، ودروس تستفاد، عن طبيعة الصراع التاريخي حول هذه المدينة. ويمكن أن نوجز بعض الملاحظات التاريخية قبل الحديث عن طبيعة الصراع في هذا العصر.
النقطة الأولى تتلخّص في أنّ القدس كانت، وستظل، هي بوصلة الصراع على المنطقة. ففي العهد البابلي، أو الفرعوني، أو الروماني، وهي الإمبراطوريات العظمى القديمة، كان الصراع يتوجه شرقاً بالنسبة للفراعنة، أو غربا بالنسبة للبابليين، أو جنوباً بالنسبة للرومانيين. وكانت جيوش هذه الإمبراطوريات، لا تتوقف عن الحروب إلا إذا وصلت القدس، وبسطت نفوذها عليها. فلمّا يحصل ذلك، يعمّ السلام، ويطرد اليهود الذين عرفوا تاريخياً بأنهم ملوك فاسدون، ثم ينتشرون في الأرض ليعودوا مع كلّ قوّة غازية، أو إمبراطورية ناشئة تريد بسط نفوذها على العالم القديم في ذلك الوقت. وقد كان دأب اليهود أن يتحالفوا مع كل قوة منتصرة، وأن يبدوا لها الولاء التام، فهم يدركون عبر وعي تاريخي أنّهم غير قادرين على أن يسودوا العالم وحدهم، ولكن ينجزون ذلك عبر تحالفهم مع القوى المهيمنة.
النقطة الثانية تتعلق بأن الوجود اليهودي في القدس، ارتبط تاريخياً بالعيث فساداً في أرض فلسطين، ويحوك المؤامرات لجعل الإمبراطوريات القائمة في ذلك الوقت في صراع مستمر. ولذلك فإنّ ملوك تلك الإمبراطوريات، كانوا يقومون فور وصولهم إلى القدس بسجن ملوك اليهود، أو نفيهم خارج أرض فلسطين. كذلك فعل الملك البابلي سنحاريب الذي تسجّل اللوحات، والنقوش رأياً له في أحد ملوك اليهود حزقيا، إذ يقول» وأما هو (أي حزقيا)، فقد جعلتُه سجيناً في أورشليم - مقرِّه الملكي - كالطائر في القفص، وقد أحطتها بمتاريس، لأجل أن أضايق أولئك الذين يطرقون باب مدينته».
وحتّى في عهد الملك البابلي نبوخذ نصر، كان مصير ملوكهم هو نتيجة طبيعية لفسادهم ولمكرهم وخبثهم، فقد وجدنا في ألواح نبوخذ نصر «بفضل قوة نبوخذ نصّر ومردوك، زحفْتُ بجيشي نحو لبنان، فهزمْتُ الخبثاءَ الذين يقطنون الأعالي والمنخفضات، كما هزمْتُ شعبَ إسرائيل في بلاد يهوذا، وجعلتُ تحصيناتِها كومةً من الأنقاض، مما لم يسبقْ لملك أن فَعَلَه». إنّ الغاية من هذه السردية التّاريخية الموجزة أنّ الصراع على القدس لم ينته، ولن ينتهي إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. وأن طبيعة الصراع لا تكمن حلولها في حلّ الدولتين، أو في صفقة القرن المشبوهة، أو في مفاوضات متاهة السلام التي لا نهاية لها. الصراع أعمق من ذلك بكثير، فهو صراع وجود، هكذا كان تاريخياً، وهكذا يكون في الحاضر، وفي المستقبل. ومسألة نقل السفارة في الذكرى السبعين للنكبة ما هي إلاّ إشارة قوية على أنّ الحديث عن السلام ليس إلاّ مجرّد كذبة كبرى، لتوجيه بوصلة الصراع عن وجهتها الحقيقية.
كل المراهنين على أنّه يمكن بدء مفاوضات سلام بعد نقل السفارة هم واهمون، لأنّه لم يعد هناك شيء يتفاوض عليه، و لأنّ الزخم المعنوي والسياسي والتاريخي والحضاري في فلسطين، وفي المنطقة العربية والإسلامية، يكمن في هذه المدينة المقدّسة. ولذلك فإنّ سعي الاحتلال إلى فتح ساحات صراع خارج أرض فلسطين مثلما يحدث في المنطقة العربية برمتها، هو مسعى للفت الأنظار عن القضية الأساسية. لقد سعى اليهود تاريخياً إلى جعل محيطهم محيطاً ملتهباً بالحروب، والدمار، والخراب، وكانوا على مر التاريخ هم الذين يستفيدون من تلك الأوضاع. والغريب أنّنا نحن العرب و المسلمين، لا نستفيد من دروس الماضي وعبره، ولا نقرأ تاريخ المدينة .
إنّها حقبة الهزيمة والانكسار، فليس لدينا سنحاريب، أو نبوخذ نصر، وفي المقابل، فإنّ اليهود المحتفلين في القدس بضمها عاصمة لدولتهم، يتناسون أنّ قاعدة حكمت الصراع التاريخي على القدس»فمن سرّه زمن ساءته أزمان». قد تتأخّر تلك الأزمان، وهذا طبيعي، لأنّ الرياح تهب في مصلحة العدو، ولكنّ الأيّام دول، ومصير المحتفلين اليوم سيكون غداً مصير حزقيا، ويهوياقيم.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

كاتب صحفي وباحث في قسم الحضارة بجامعة تونس

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"