افتراق أساسي في مسار الإرهاب

01:47 صباحا
قراءة 4 دقائق
فيصل جلول

شهدت مدينة نيس الفرنسية مأساة مروعة الأسبوع الماضي، عندما اقتحم انتحاري تونسي بشاحنة نقل حشداً من المتفرجين الفرنسيين والأجانب على استعراض لإطلاق الأسهم النارية بمناسبة العيد الوطني الفرنسي. وقد أدت العملية الإرهابية إلى إصابة 300 فرنسي وأجنبي، بينهم 84 قتيلاً، وعدد من الجرحى الذين لم يغادروا غرف العناية الفائقة بعد. ويقدر عدد القتلى العرب ب 7 أشخاص بينهم طفل وهم من المغرب وتونس والجزائر، وتفيد الروايات المتداولة في باريس أن الضحية الأولى كانت سيدة جزائرية محجبة ومتدينة جاءت إلى نيس لزيارة ابنتها التي اصطحبتها إلى جادة الاستعراض الليلية. وليس معروفاً بعد عدد الجرحى من ذوي الأصول العربية، علماً أن الإصابات توزعت على جنسيات أمريكية وإيطالية وأوكرانية وبلجيكية وألمانية..

والجدير ذكره أن الإرهابي محمد بوهلال اختار أن يقتحم جادة نيس البحرية، حيث يتجمع المحتفلون في اللحظة التي تراخت فيها الإجراءات الأمنية، الأمر الذي يفسر نجاحه في إصابة هذا العدد الكبير من الضحايا على امتداد ألفي متر، فضلاً عن استخدام شاحنة طولها 15 متراً وتزن أطنانا كوسيلة قتل وترهيب جماعي وهذا يقع للمرة الأولى في فرنسا.
ومن بين الأسباب الأخرى لنجاح العمل الإرهابي، أن منفذها لم يكن معروفاً لدى الشرطة، وبالتالي ما كان من الذين ذهبوا إلى سوريا وعادوا منها، ولم يكن اسمه مدرجاً على جداول المراقبة الأمنية، بل ما كان من الممكن الشك فيه إطلاقاً لأسباب أصولية. فقد ذكرت وسائل الإعلام الفرنسية أنه كان يشرب الخمرة ويهوى المغامرات النسائية، ويجيد رقصة السالسا، ويفطر خلال رمضان ويواظب على رياضة كمال الأجسام للإغراء، ويستخدم العنف في حل مشاكله مع المحيطين به أو خلال يومياته. وتؤكد ذلك مطلقته التي قالت إنها كانت تتعرض للضرب المبرح قبل أن تنفصل عنه.
والملفت أن «داعش» تبنت عمليته رغم ابتعاده عنها ظاهرياً على الأقل. ولعل استخراج تفاصيل أخرى من التحقيقات التي يقوم بها رجال الشرطة مع عدد من المحيطين به، تحمل إضاءات أكثر على خلفية هذا الإرهابي الذي يخرج عن سياق «الجهاديين» المعروفين.
لهذه الأسباب ولغيرها ثمة من يعتقد أن عملية نيس قد تحدث تحولاً في مسار العمليات الإرهابية في فرنسا، وأن «داعش» قد ارتكبت خطأ في رعاية تنفيذها وذلك للأسباب التالية:
أولاً: لأن منفذ العملية لم يكن مقيداً بالقيم العقائدية التي تضبط عمليات من هذا النوع وإذا كان صحيحاً أن واحداً أو اثنين من إرهابيي 11 سبتمبر/أيلول 2001 كان يشرب الخمر ويعاشر بائعات الهوى، فالصحيح أن ذلك كان من باب التكتيك وإبعاد الشبهات، وليس من العادات الأصيلة للمعني، كما هي حال بوهلال الذي بدا وكأنه يعمل لحسابه ولأهدافه ولدوافعه وأن «داعش» لم تر غضاضة في منحه رخصتها بعد العملية، ما يعني بنظر الناس أن «داعش» لا تختلف عن أية دولة أخرى تعتمد مبدأ الغاية تبرر الوسيلة.
ثانياً: لأن العملية أصابت كل الناس ومن بينهم العرب، وبالتالي استدرجت شجباً من كل الناس الذين لم يترددوا في رفع أصواتهم عالياً لإدانة «داعش» التي بدت عدمية تماماً تقتل كل من ليس «داعشياً». والملفت في هذا الصدد هو مبادرة الجالية العربية للتعبير بأصوات مختلفة عن استيائها وشجبها للمجزرة، وهو ما لم يقع بمثل هذا الشمول في العمليات السابقة.
ثالثاً: للمرة الأولى يسقط في عملية إرهابية عدد كبير من الأطفال الذين أثار سقوطهم غضباً شديداً.

رابعاً: إن الغضب الشامل يمكن أن يؤدي أغراضاً مضادة تماماً للأغراض التي أرادها التنظيم الإرهابي من هذه العملية، فالناس لم يبتلعوا ألسنتهم خوفاً وترهيباً، ولم ينقسموا بين ضحية من هنا مختلفة عن ضحية من هناك، وبالتالي من الصعب الرهان على تحويل غضبهم إلى عنصر ضاغط على حكومتهم لثنيها عن مواصلة السياسات التي تعتمدها في سوريا والعراق. هذه المرة الغضب يتركز على «داعش»، ويشمل كل الناس وقد ينعطف هذا الإجماع بالنظر إلى الأعمال الإرهابية بل ربما يطلق رصاصة الرحمة عليها. ولعل التجربة الإيطالية في أواخر ستينات القرن الماضي تفيدنا في قراءة هذا الجانب في عملية نيس.

معلوم أن «الألوية الحمراء» أرادت قطع الطريق على تحالف التيار المسيحي الديمقراطي والتيار الشيوعي في حكومة واحدة لذا اختطفت مهندس الاتفاق رئيس الوزراء الراحل الدو مورو. وعمدت إلى الضغط عبر اعتقاله لإخلاء سبيل مساجينها، فضلاً عن شروط أخرى مشابهة. امتنعت الحكومة الإيطالية عن تلبية مطالب الخاطفين الأمر الذي دفعهم إلى قتل الدو مورو، ورمي جثته في صندوق سيارة صغيرة في أحد شوارع روما.

أثار قتل مورو بتلك الطريقة الوحشية إجماعاً وغضباً شعبياً عارماً ضد الخاطفين الأمر الذي سهل سبل القبض عليهم، وبالتالي طي صفحة «الألوية الحمراء» إلى الأبد. ليست المقارنة بين الحادثة الإيطالية وعملية نيس بحد ذاتها جواباً قاطعاً على ما يمكن أن يصيب «داعش»، فالثابت أن ما جرى صائب في الحالتين لجهة عزلة الجهة المنفذة وكل عزلة حمالة انعطاف بطبيعتها.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"