بين الأتراك وفرنسا

03:06 صباحا
قراءة 3 دقائق
أحمد مصطفى

لا يمكن إغفال أن الفرنسيين يريدون استعادة مجد غابر، لكن ليس بطريقة الترك عدواناً واحتلالاً وصلفاً وغباءً

قد يبدو الهجوم العنيف الذي شنه الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، على الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، رد فعل شخص منزعج من موقف فرنسا الصارم في وجه عربدة تركيا في شرق المتوسط واعتداءاتها على قبرص واليونان وإثارتها للعنف والإرهاب في ليبيا. وظاهر الموقف الفرنسي أنه وقوف إلى جانب أعضاء في الاتحاد الأوروبي في وجه عدوان دولة من خارجه، حتى لو كانت عضواً في حلف الناتو. وربما يبدو الموقف الفرنسي القوي بشأن العدوان التركي في ليبيا أكثر إزعاجاً للترك مما يحدث في شرق المتوسط. فالترك يراهنون على موقف ألمانيا المائع، مستغلين التنافس التقليدي بين الألمان والفرنسيس على زعامة الاتحاد الأوروبي.

كل ذلك وارد بالطبع، لكن إذا لم نأخذ الأمور على ظاهرها، فإن ما بين الترك والفرنسيس أعمق وأخطر. وليس القصد هنا عمق التاريخ، وموقف الأوروبيين من الاحتلال العثماني لبلادهم وتهديدهم لأوروبا، ولا حتى تهديدات أردوغان بإغراق أوروبا بالمهاجرين وبينهم الإرهابيين الذين ترعاهم أجهزته. ففرنسا في الواقع تريد تعزيز دورها في محيطها وما وراءه، وليس هناك مناسب أكبر من مواجهة العربدة التركية. ولعل صراخ أردوغان في انتقاده للرئيس الفرنسي يعكس بالفعل قلقاً تركيّاً من موقف الفرنسيس. فقد تخلى الأمريكان، في إطار سياسة فض الارتباط مع العالم التي بدأت في فترة الرئاسة الثانية للرئيس الجمهوري السابق جورج دبليو بوش، عن لعب دور حاسم في الصراع في المتوسط. أما في ليبيا فموقف أمريكا مريب ويشبه إلى حد كبير موقفها في سوريا من التدخل والاحتلال التركي وحتى الموقف من الميليشيات والجماعات الإرهابية مثير للقلق فعلاً.

لهذا، يسعى الرئيس الفرنسي للعب دور يملأ فراغ غياب الأمريكان وميوعة الألمان. ليس ذلك فحسب، بل إن فرنسا تريد أيضاً استعادة «التميز الأخلاقي» الذي استأثرت به بريطانيا والولايات المتحدة قبل تراجع دورهما وما أصبحتا عليه من انتهاك لمعايير تقليدية حكمت السياسة الدولية وكانتا من قبل تعتبران نفسيهما حماتها ولطالما انتقدتا ووعظتا بقية الدول بشأنها. ورغم أن ألمانيا هي الأقوى أوروبياً إلا أنها لا تملك ما لدى فرنسا من تراث وإمكانيات في السياسة الدولية. بالطبع لا يمكن إغفال أن الفرنسيين يريدون استعادة مجد غابر، لكن ليس بطريقة الترك عدواناً واحتلالاً وصلفاً وغباءً.

المهم، والأخطر، في الهجوم اللفظي لأردوغان على ماكرون والفرنسيس، هو تركيز التركي على ماضي فرنسا الاستعماري في إفريقيا وذكره الجزائر ورواندا بالاسم تحديداً. وكأنما ما فعله الاحتلال العثماني في بلاد المشرق والمغرب لم يكن استعماراً لا يقل بشاعة وعلى مدى سنوات أطول من الاستعمار الفرنسي والانجليزي!. إنما تركيز الترك على إفريقيا يشير إلى جوهر الصراع الحالي بين الترك والفرنسيس، وفي القلب منه من يساند الإرهاب وينشره ومن يتصدى له ويكافحه.

صحيح أن الترك والفرنسيس يتقاطعان في سوريا ولبنان، وهذا ما يزعج أردوغان لأنه إذا كان يستطيع التفاهم مع الروس والأمريكان ويستميل إيران، لكن لا ورقة ضغط لديه أو عوامل لعب قوية مع فرنسا. ورغم احتلال الترك أجزاء جديدة من سوريا وترسيخ وجودهم العسكري فيها، فإن ميزة فرنسا في لبنان قد تظل مصدر تهديد لمطامع أردوغان في سوريا.

لكن الساحة المفتوحة، حسب تصور أردوغان ورعاة الإرهاب، هي إفريقيا. وهي ساحة يغيب عنها الأمريكان والإنجليز بشكل أو بآخر، أو على الأقل ليس نفوذهم فيها كنفوذ الفرنسيين. ولأن أردوغان بدأ في دعم الإرهاب مبكراً، أولاً من الصومال، ويستكمل ذلك الآن بمحاولة تكوين بؤرة أكبر وأخطر في ليبيا، فلا يجد من مقاومة من قوى الغرب الرئيسية سوى من فرنسا. وهذا سر الانفعال الناجم عن انزعاج من تصدي باريس لمخططات الترك، خاصة في ليبيا. ويتجاوز الوضع هنا مسألة ميزة أخلاقية في السياسة الدولية أو البحث عن استعادة أمجاد غابرة إلى تهديد مباشر للمصالح الآنيّة.

لم يكن ما حدث في مالي، حتى إن لم يبد للترك دور مباشر فيه، ببعيد عن حملة فرنسا على تركيا وموقفها العملي في دعم اليونان وقبرص عسكرياً في مواجهة التعديات التركية. كما تتخذ فرنسا في أزمة ليبيا موقفاً واضحاً وحاسماً رافضاً للميليشيات والإرهابيين ممن جلبهم أردوغان أو عملاؤه المحليون. هذا هو جوهر خلاف الترك والفرنسيين والعصبية الأردوغانية. وإذا كانت فرنسا تسعى لمصالحها في مواجهة مخططات تركيا، فإن هذا يتقاطع مع مصالح كل من يكافح الإرهاب ويسعى لدرء خطره.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

يشتغل في الإعلام منذ ثلاثة عقود، وعمل في الصحافة المطبوعة والإذاعة والتلفزيون والصحافة الرقمية في عدد من المؤسسات الإعلامية منها البي بي سي وتلفزيون دبي وسكاي نيوز وصحيفة الخيلج. وساهم بانتظام بمقالات وتحليلات للعديد من المنشورات باللغتين العربية والإنجليزية

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"