ترامب.. كاتب الرواية أم أحد أبطالها؟

03:32 صباحا
قراءة 4 دقائق
جميل مطر

تابعت بشيء كبير من الشغف، ولمدة غير قصيرة، أفعال الرئيس دونالد ترامب، الآن أتابع أفعاله بشيء كبير من القلق، ومن دون شغف. كان للشغف ما يبرره، إذ جاء الرجل في أعقاب عهد أمريكي معجون بالملل. قضينا، وبكلمات دقيقة، قضيت مدة العهد السابق متابعاً علامات مكررة لدولة عظمى تنحدر في المكانة، وتنسحب من مواقع قوتها، ولا تحاول بالجهد المناسب صنع البديل المتمكن. أذكر أن بعضاً من الناس التهى عن الملل بتحليل بلاغة الخطاب السياسي، وبالفعل كان باراك أوباما قمة في بلاغة اللغة. هذا الرجل الذي أجاد فهم القانون، وعلاقته بالسياسة، واستشعر عن بعد كافٍ تسارع درجات انحدار بلاده، كان متواضعاً في فهم مغزى التحولات الجارية في ذلك الوقت، سواء في داخل المجتمعات عامة، أو في قواعد العمل الدولي، وعلاقات الدول ببعضها بعضاً.
جاء ترامب فتوقف الشغف، واشتعل القلق. أينما وجهنا آذاننا لنسمع، وعيوننا لتبصر، نقابل القلق. زميل سابق عائد من رحلة عمل طويلة في أمريكا الجنوبية فاجأني بإجابة عن سؤال تقليدي يسأله من يعرف شيئاً عن هذه القارة؟ قال، القارة تعود إلى المربع رقم واحد. شعوب تشتبك مع هوياتها. الفساد يقضم الحاضر والمستقبل معاً. الطبقة الوسطى تضمر، أو تذوب أطرافها في كتل الفقر وعشوائيات الفكر والثقافة والسياسة. البرازيل كانت نموذجاً وعادت للنموذج نفسه. دائماً أبداً أسأل، ودائماً أبداً أسمع أن الجيش البرازيلي، يستعد لتولي السلطة، فالفوضى ضاربة، والفساد مهيمن، ومنظمات الجريمة هي التي تحكم قرى، أو مدناً، أو تسيطر على مساحات بعضها يزيد على مساحة المملكة المتحدة، أو إيطاليا. ليس سراً، أو خبراً غير معلن أن للجيش دوراً في خطة تشويه سمعة الرئيس الأسبق سيلفا دا لولا، وضرب قاعدته الشعبية، وللجيش يداً في اختيار بولسونارو كمرشح في انتخابات الرئاسة، ويداً أخرى في النتائج التي حصل عليها. ربما يكون انتخابه البديل الأخير لتدخل سافر من الجيش البرازيلي تعقبه، وكلنا شهود من التاريخ القريب، انقلابات عسكرية في عدد غير قليل من دول القارة. الفساد في البرازيل عاد يعمي الأبصار ويتحدى الكنيسة، وهي على كل حال، فاقدة معظم رعيتها. فقدت الرعية خلال المرحلة الانتقالية من الاستبداد إلى الديمقراطية. فقدتها حين اعتنقت نسبة كبيرة من الكاثوليك البروتستانتية الإنجيلية، خاصة الفرع الذي زين لدونالد ترامب حكم أمريكا، وتاج مملكة بيت المقدس الممتدة حسب مشروع شهير عرف بصفقة القرن لا تكاد العين تراه إلا ويختفي ليعود فيظهر في عاصمة، أو أخرى ويختفي.
يتصاعد العصيان ضد الولايات المتحدة. بوليفيا لا تزال تعارض سياسات أمريكا في القارة الجنوبية، وتدين مواقفها من فلسطين. وفنزويلا صامدة في مواجهة الولايات المتحدة التي استطاعت كسب تأييد أكثر من خمسين دولة ضد حكومة الرئيس مادورو، وتدعم مرشح واشنطن، وتعترف به رئيساً. تعترف به اعترافاً مؤجلاً، ومرتبطاً بواقع استلامه السلطة الفعلية. فنزويلا نموذج مهم للسياسة الخارجية الأمريكية في عهد الرئيس ترامب. ليست النموذج الوحيد، فالسياسة الأمريكية تجاه روسيا نموذج آخر، وكذلك السياسات تجاه سوريا، وكوريا، والسودان، وغيرهم، كلها نماذج لسياسة تجويع الشعوب لإخضاع الخصوم. أهمية النموذج الفنزويلي تكمن في وحشيته منذ أن ركز الحصار على الغذاء والدواء. لم يتدخل ترامب عسكرياً، ولكنه ربما أراد اختبار هذا النموذج كأداة أشد عنفاً وقسوة من الحرب، يرهب بها شعوب أمريكا اللاتينية، وأغلبها غاضب، وربما لأنه، وأقصد ترامب، لا يريد الدخول في حروب خارجية استنكرها بنفسه خلال حملته الانتخابية. المؤكد على كل حال، أن المؤسسة العسكرية الأمريكية لها رأي يقضي بعدم التدخل عسكرياً في فنزويلا، متأثرة بتهديدات كل من الصين وروسيا. نعرف الآن أن تقارير موثوق بمصادرها أفادت بأن منظمة «فارك» التي حاربت سنوات عدة جيش حكومة كولومبيا وقوات أمريكية غير نظامية، هددت بأن تعود قواتها إلى الغابات لاستئناف القتال، لو وقع اعتداء عسكري مباشر على دولة فنزويلا.
نعلم، ولكن ليس علم اليقين، أن فيروساً ما أصاب الرأي العام العالمي فأقعده ربما إلى أجل غير مسمى. وتشاء الظروف، ولعلها الأقدار، أن يرتاح رؤساء أعظم الدول المتنافسة على مقاعد القمة الدولية، إلى مفهوم جديد في الممارسة السياسية، ألا وهو مفهوم عصر «الرجال الأقوياء»، سواء أكان ترامب صاحب هذا المفهوم وأول من أطلقه، أم كان فلاديمير بوتين، أم أن ممارسات الصين السياسية مع عشرات الدول الواقعة على طريقي الحرير والحزام، هي التي أوحت لقادة الحزب الشيوعي الصيني بالاستفادة من هذا المفهوم مجدداً، وأعاد تلميعه ليليق بمقومات عصر جديد في ساحات التنافس الدولي.
ما زلت لم أقرر إن كان دونالد ترامب منشئ مرحلة تاريخية، أم هو صنيعتها، وإحدى أدواتها. لا شيء من أفعاله يقطع بإجابة حاسمة. يتساوى كرهه للقانون، ومقته للقانون الدولي والمؤسسات الأممية، مع كره ومقت معظم من صاروا يحملون اسم الرجال الأقوياء، كما لو كنا نعيش مرحلة تستدعي حتماً، وبالضرورة، صفات استثنائية ومتجاوزة للقوانين.
كلهم، أو أغلبهم، قلقون.. ومن شدته انتقل القلق إلى شعوبهم.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دبلوماسي مصري سابق وكاتب متخصص بقضايا العلاقات الدولية. اشترك في تأسيس مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بمؤسسة الأهرام. وأنشأ في القاهرة المركز العربي لبحوث التنمية والمستقبل. عضو في مجلس تحرير جريدة الشروق المصرية ومشرف على صفحة الرأي

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"