جريمة سياسية مموهة

05:25 صباحا
قراءة 4 دقائق
قبل أيام من اغتيال المعارض الروسي الأبرز بوريس نيمتسوف حذر الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند من حرب شاملة في أوكرانيا، أي في عرين أوروبا إن لم يحترم الجميع اتفاق مينسك بين الأطراف المتصارعة في شرق هذا البلد . ينطوي هذا الكلام على هلع حقيقي من فيضان التطورات الأوكرانية الى محيطها المباشر ومن ثم الامتداد تدريجياً الى عمق القارة العجوز . وكان وزير خارجيته قد صرح قبل اتفاق مينسك بقوله: "إن حرباً تدور على بعد 3 ساعات بالطائرة من باريس هي خطر داهم" .
من هذه النافذة أي من الحرب الأوكرانية يتوجب النظر الى اغتيال خصم بوتين الأكبر نيمتسوف الذي عمل مستشاراً للرئيس الأوكراني السابق وتعاطفه العلني مع الحكومة الأوكرانية في كييف ضد السياسة الرسمية لبلاده والتي رفعت حاكم الكرملين الى قمة الوطنية والعالمية بحسب مؤيديه .
العلاقة الوثيقة بين الضحية الروسية وحكومة كييف عكستها أشياء كثيرة من بينها رد الفعل الرسمي الأوكراني على اغتياله الذي وجه اتهاماً مبطناً للكرملين "لقد رفض أن يعيش راكعاً في روسيا" ولهذا السبب تعرض للاغتيال . بكلام آخر يمكن القول إن الحكومة الأوكرانية ترى أن فلاديمير بوتين هو الذي يقف وراء اغتيال نيمتسوف ولا أحد غيره، الأمر الذي يشكك به خبراء كثر في روسيا وأوروبا، ويصل التشكيك الى حد الافتراض أن هذه العملية تستهدف الرئيس الروسي نفسه وتستهدف أيضاً اتفاق مينسك وبالتالي صب الزيت على نار الحرب الأوكرانية وبعث الخوف في أوروبا من شمولية بوريس يلتسين الصاعد نجمه والمشترك أكثر فأكثر في تدبير شؤون العالم بما يشبه ولو من مكان يعيد دور الاتحاد السوفييتي السابق .
ومن هذا الباب ينبغي النظر في فرضيات اغتيال نيمتسوف وأولها أن العملية نظمتها المخابرات الروسية لمصلحة زعيم الكرملين وذلك لأن المعارض الضحية هو الوحيد القادر على منافسة بوتين، وقد حصل على 14 بالمئة من أصوات الناخبين في انتخابات العام 2009 الرئاسية وهو الوحيد الذي تجرأ على اعتراض سياسة بلاده تجاه أوكرانيا بل عمل مع حكومتها كما أسلفنا وهو الوحيد الذي تجرأ في مناسبات عديدة على تحدي القيصر الروسي، وعلى التحذير من خطر الديكتاتورية في بلاده وعلى التواطؤ مع انتقاد الغرب للسياسة الخارجية الروسية الهجومية في أكثر من موقع وهو الوحيد الذي تتركز عليه حملات الانتقاد من الإعلام الموالي للكرملين بوصفه "ناقص الوطنية" و"صدى الأجانب" وما شابه ذلك . بعبارة أخرى كان المعارض المذكور ضحية نموذجية في بلد شهد اغتيالات مشابهة ولم يكشف النقاب عنها بعد ضد معارضي بوتين ويفترض بالظروف الراهنة المناسبة للحكومة الروسية أن تشكل غطاء للاغتيال، وأن تسهل وقوع الجريمة الاستباقية بلا ردود فعل خطرة، وبالتالي لا يمكن لاغتياله إلا أن يقدم خدمة لخصومه، فالجريمة تحتاج دائماً لمن يستفيد منها والمستفيد هنا واحد ظاهر فقط هو فلاديمير بوتين .
تبدو هذه الفرضية مركبة الى حد يصعب تصديقها بل التشكيك في أنها تستهدف استقرار روسيا . ذلك أن نيمتسوف لم يشكل يوماً خطراً جدياً على بوتين فهو محدود التأييد ومحدود التأثير الداخلي ويحتفظ بماض غير جذاب بوصفه نائب أول لرئيس الوزراء في عهد بوريس يلتسين و"مسؤول عن إفقار الشعب الروسي" فضلاً عن تعاطيه مع الأزمة الأوكرانية بما يخالف الشعور القومي الصاعد في بلاده ولأنه يحتل موقعاً مخالفاً لشعور الأغلبية العظمى من مواطني بلاده، فمن المفترض أن يستفيد منه بوتين حياً وليس ميتاً وبالتالي لا جدوى من اغتياله .
من هذا الباب أيضاً يمكن قراءة رد الفعل الأمريكي المتحفظ على الجريمة والداعي الى "تحقيق شفاف وغير متحيز" من دون أن تتهم واشنطن الرئيس الروسي كما فعلت معظم وسائل الإعلام الأوروبية ومن هذا الباب أيضاً وأيضاً يمكن تلمس الخطر الذي لاح في تعليقات وتحليلات خبراء أوروبيين حول انعكاس هذه الجريمة على الاستقرار في روسيا وأوكرانيا ومنها الى أوروبا .
بيد أن هذه الفرضية ليست الوحيدة، فقد رأى بعض المحللين أن نيمتسوف ربما اغتالته جماعة إسلامية متشددة بسبب موقفه المتعاطف مع فرنسا في قضية "شارلي إيبدو" وتأييده القوي للصحيفة الفرنسية التي تعرض طاقمها للاغتيال على يد الأخوين كواشي المرتبطين بالقاعدة، و"داعش"، لكن هذه الفرضية مازالت حتى الساعة بلا مستندات ملموسة تتيح التوسع في البناء عليها .
تبقى فرضية ثالثة لا تقل أهمية عما سبق، فالمعارض الروسي الذي وصفه بيان الاليزيه ب"المناضل الكبير ضد الفساد في بلاده" ربما كان ضحية أخرى من ضحايا المافيا الروسية التي تعمل في إطار نظام فلاديمير بوتين من دون أن يتمكن أحد من قهرها أو السيطرة عليها، وبالتالي تتصرف بما يتناسب مع حساباتها ولما تعتقد أنه مصلحة قومية قد تفيد بوتين الذي لربما بنظرها تمنى هذا الاغتيال لكنه لا يستطيع تبنيه أو التخطيط له وتنفيذه .
يفصح ما سبق عن عملية اغتيال خطرة تتعدى الظن الساذج بالتخلص من معارض روسي تحدى زعيم الكرملين، فالراجح أن من خطط لها ونفذها يريد لروسيا ان تنحدر نحو صراع أهلي يضعف سياسة البلاد الخارجية القوية العائدة الى المسرح الدولي ويبدد مواردها في احتراب طويل الامد يخسر فيه الجميع ويربح من يرغب في إقصائهم عن شؤون العالم التي يحشرون أنفهم فيها بطريقة تتعارض مع خلاصات وموازين القوى التي رست بعد الحرب الباردة .
قبل ايام من اغتياله قال نيمتسوف إنه يخاف على حياته وحياة أسرته من عملية اغتيال داهمة من دون أن يشير الى الجهة المعنية، وكان من البداهة ألا تكون في مكان آخر غير الكرملين، ولعل هذا ما يجعل الجريمة نموذجية في تخطيطها وتنفيذها وتوقيتها بحيث تكون عبارة عن ضحية ومجرم واحد لا شريك له .


فيصل جلول

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"