«اليانكي» لن يقتل جيفارا مرتين

04:20 صباحا
قراءة 4 دقائق
فيصل جلول

كان المفكر الشهير ليون تروتسكي محقاً، حين أكد بشكل قاطع أن الثورة الاشتراكية لا يمكن أن تنتصر في بلد واحد. وكان في كتبه، «الثورة المغدورة» و«الثورة الدائمة»، يكرر بالتفصيل المقولة نفسها، وذلك بمواجهة ستالين والبيروقراطية السوفييتية، التي أصرت على أن الاشتراكية متاحة في بلد واحد يكون نموذجاً لغيره من البلدان. صارت نهاية السجال، حول هذه المسألة التي شغلت القسم الأكبر من الحرب الباردة معروفة. فقد تمكن ستالين من اغتيال تروتسكي في المكسيك، لكن ورثته أصروا على نشر أفكاره عبر الأممية الرابعة، معتبرين الستالينية أخطر من الرأسمالية، لأنها عدو الداخل فيما الأولى عدو الخارج البديهي.
لم يكن تشي غيفارا تروتسكيا بل أقرب إلى الماوية منه إلى الستالينية، لكنه مع ذلك كان يرى أن الانتصار على الإمبريالية، بلغة تلك الأيام، يقتضي فتح أكثر من فيتنام واحدة، تنقذ ليس فقط هانوي الشيوعية وإنما تلحق الهزيمة بالإمبريالية ومعها نموذجها، فيكون الانتصار شاملاً، وبالتالي تصبح كل الثورات والبلدان الثورية بمأمن من التراجع والانهيار.
أذكر بهذا الجانب من السجال الماركسي-الماركسي العائد لأواسط القرن الماضي، على هامش زيارة باراك أوباما إلى هافانا العاصمة الكوبية، التي حررها تشي غيفارا من ديكتاتورية باتيستا إحدى دمى واشنطن عام 1959 وأرادها قاعدة لنشر الثورات التحررية في أمريكا اللاتينية من أجل القضاء على الإمبريالية، وبالتالي نشر العدالة الاشتراكية في مختلف أنحاء القارة ومن بعد في مختلف أنحاء العالم.
كان واضحاً أن كوبا الغيفارية قد لعبت طويلاً هذا الدور، إلى حد أنها كادت أن تتسبب بحرب عالمية نووية جراء أزمة خليج الخنازير عام 1961، أي بعد مضي سنتين على تحرير كوبا.. بيد أن منطق الحرب الباردة، غلب على الحرب النووية القاتلة للجميع، وتمكن الروس في حينه، من حماية كوبا التي اعتقدت واشنطن أنها تشكل قاعدة خطرة على مقربة من شواطئها في ولاية فلوريدا. وإذا كان صحيحاً أن واشنطن قد احترمت تعهداتها بعدم تنظيم حملات عسكرية على كوبا، إلا أنها لم تكف عن مكافحة النظام الكوبي بالوسائل والأسلحة الناعمة، عبر تشجيع الانشقاق عن «آل كاسترو» أو عبر تشجيع المافيات على اغتيال الزعيم الكوبي وشقيقه. هذا إن أردنا الامتناع عن ذكر الحصار القاتل، الذي مازالت واشنطن تفرضه على كوبا، فضلاً عن العقوبات والمقاطعة والضغوط المستمرة على حلفائها في أمريكا اللاتينية من أجل إبقاء الجسور مقطوعة مع النظام الكوبي.
وعلى الرغم من ذلك صمد نظام كاسترو، وانتشرت مجموعة كبيرة من حروب العصابات في أمريكا اللاتينية، لم تكلل أي منها بالانتصار على الطريقة الكوبية، وبعضها ما زال مستمراً حتى يومنا هذا. بيد أن الظاهرة الأبرز نشأت في فنزويلا، حيث تمكن هوغو تشافيز، من تولي السلطة بواسطة الانتخابات وبنى الجسر اللاتيني الأول والأهم مع كوبا، ثم كرت السبحة، إذ مشت دول أخرى على الرسم الفنزويلي وأفلح قادتها في تولي الحكم في بلدان كانت حليفة للولايات المتحدة، وصارت صديقة لكوبا من دون أن تتبنى المثال الكوبي في الاقتصاد والاجتماع، ومن بينها بوليفيا التي يتولى الحكم فيها ايفو موراليس والتي سقط تشي غيفارا في أدغالها.
ما من شك في أن جيفارا كان يتطلع إلى مثال آخر من الأنظمة، وبالتالي ما كان يرى الاندماج في السوق الرأسمالية انتصاراً، حتى لو كان نظام الحكم موالياً لكوبا، أو مناهضاً لليانكي ولعله ما كان ليسعد بزيارة رئيس أمريكي إلى هافانا التي كان يريدها مقبرة للنظام الإمبريالي بزعامة الولايات المتحدة.. لكن جيفارا لا يلوي على شيء، فقد سقط النموذج السوفييتي وهو ما كان يحذر منه تروتسكي وما كان يخشاه «تشي» أيضاً. أما النموذج الاقتصادي الكوبي فقد صار بمثابة مقبرة مفتوحة لبلد محاصر، وبالتالي صار بحاجة لكي يبقى على قيد الحياة إلى نوافذ مفتوحة على السوق الرأسمالية.
ولعل ما أصاب جيفارا نفسه مقتلا، تحويله بوسائل الديزاين الرأسمالي، إلى أيقونة تجارية وصورة حالمة بل إلى أداة قتل لأفكاره ولهويته ولطموحاته وشعاراته وقيمه وعاداته وتقاليده.
لا أعرف إن كان الرئيس الأمريكي باراك أوباما سيزور ضريح تشي غيفارا؟ وإن فعل ستكون حاله كحال الجنرال اللنبي والجنرال غورو اللذين احتلا فلسطين وسوريا معقل صلاح الدين الأيوبي بعد أكثر من ستة قرون وقالا عبارتهما الشهيرة على ضريح الناصر الشهير: «ها قد عدنا يا صلاح الدين».
إن الكوبيين وإن كانوا قد فشلوا في تحويل أمريكا اللاتينية إلى قارة اشتراكية على الطريقة الكوبية، إلا أنهم تمكنوا من الصمود الأسطوري على مقربة من معقل قيادة الرأسمال العالمي، الأمر الذي أتاح على الأقل تحولاً ديمقراطياً في القارة بأسرها، ما جعلها بيئة حاضنة لكوبا ومركز قوة فرضت على واشنطن فك الحصار عن هافانا كشرط لعلاقات طبيعية مع القارة.
قد يكره تشي غيفارا رؤية أوباما في عاصمة أحلامه ومقاومته، وقد يلوم رفيق دربه راؤول كاسترو على هذه المبادرة، لكنه سيبتسم في سره لمرة واحدة على الأقل، فقد بينت استطلاعات الرأي على هامش الزيارة أن «تشي» أصبح الملهم الثاني الأهم في توحيد أمريكا اللاتينية بعد سيمون بوليفار، وهذا لا يمكن أن تدمره مئة ألف زيارة أمريكية إلى كوبا أو غيرها.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"