الحرب الطويلة على الإرهاب

04:16 صباحا
قراءة 4 دقائق
د . مصطفى الفقي
أرجو ألا أكون صادماً لأصحاب الإشارات المتفائلة في إمكان القضاء السريع على الإرهاب الدموي في المنطقة العربية، إذ إن المسألة أكبر بكثير مما يبدو عليه المشهد حالياً، وأنا أظن أن أسوأ أيام المنطقة لم تبدأ بعد! لأن المتربصين بها كثر، ولأنها تخضع لمخطط له مركز في المنطقة يقوم بتوظيف علاقاته بالأطراف الدولية الكبرى لخدمة الهدف النهائي وهو تفتيت الدول العربية وتقطيع أوصالها بدءاً بنظرية تقويض "الدولة الوطنية" .
والذين يظنون أن "داعش" جماعة طارئة في تاريخ المنطقة لا يدركون ذلك المخطط الخبيث الذي جرى إعداده للعالمين العربي والإسلامي، ويكفي أن نتذكر أن الذين يبتغون تمزيق العالم العربي إنما يفعلون ذلك وهم يرفعون رايات الإسلام ويتصورون أنهم يستعيدون أمجاد دولته الكبرى، بينما هم في الواقع يوجهون طعناتٍ دامية لصورة الإسلام وتاريخه وحضارته، ويقدمون المنطقة كلها على طبقٍ من فضة لأعدائها وهنا يجدر تسجيل الملاحظات التالية:
* أولاً: مازلت أتذكر بالأسف الشديد رحيل زميلي الدبلوماسي د .إيهاب الشريف الذي كان يعمل مساعداً مباشراً لي عندما كنت مديراً لمعهد الدراسات الدبلوماسية عام ،1993 والذي لقي مصرعه ذبحاً على يد "الزرقاوي" وجماعته عندما كان رئيساً للبعثة المصرية في بغداد منذ عدة سنوات . ولقد كان ذلك الدبلوماسي الشهيد واحداً من ألمع الدبلوماسيين وأكثرهم ذكاءً، وكان حاصلاً على درجة الدكتوراه من إحدى جامعات باريس، كما كانت له عدة مؤلفات حول الدول التي زارها أو عمل فيها، أتذكر ذلك الآن وأنا موقن أن تنظيم "داعش" هو امتداد لجماعة "القاعدة" في "العراق" والتي كان "الزرقاوي" أحد رموزها قبل مقتله عندما لعبت إيران دوراً في تسليمه للأمريكيين في العراق حينذاك، وذلك يؤكد وحدة المنظمات الإرهابية في كل مكان وتشابه أساليبها خلال مراحلها المختلفة، فالإرهاب في النهاية رسالةٌ عشوائية إجرامية إلى غير عنوان .
* ثانياً: مظلوم هو الإسلام الحنيف كما لم يظلم دينٌ سماويٌ آخر فقد جرى إلصاق "الغلو" و"التطرف" و"العنف" و"الإرهاب" به على غير حقيقته، ورغم أن الإسلام يحفل بالدعوة القوية إلى "التسامح" واحترام الآخر والحفاظ على النفس البشرية إلا أنهم يحاولون تشويهه لكي يصبح دين "ذبح الرقاب" و"قطع الرؤوس" والعدوان على الآمنين وترويع النساء والأطفال، والغرب يطرب لذلك وينقل تلك الأحداث الدامية كما لو كانت هي الإسلام الحقيقي في مواجهة رأي عام دولي لا يعرف الفروق الحقيقية بين صحيح الدين وبين ما يحاولون إلحاقه به، حتى أنهم استبدلوا أخيرا باسم "داعش" اسم "الدولة الإسلامية" حتى يتم الزج بالدين الإسلامي لدى الذهن الغربي والرأي العام في كل مكان استمراراً لمحاولات التشويه المستميتة التي جرى تصديرها في العقود الأخيرة رداً على أطروحات "الإسلام السياسي" منذ نهاية الربع الأول للقرن العشرين .
* ثالثاً: يجب أن نعترف أنه لم يحدث استغلال لقضية دولية كبرى ذات تأثير إقليمي كاسح مثلما جرى بالنسبة لاستخدام الصراع "العربي- الإسرائيلي" في محاولة ظالمة للخلط بين المقاومة المشروعة والكفاح المسلّح في جانب وبين العنف العشوائي والإرهاب الدموي في جانب آخر، ولقد حاولت جماعاتٌ متطرفة لا تبدو بعيدة عن "الإرهاب" استغلال القضية الفلسطينية باعتبارها القضية الأولى في العالمين العربي والإسلامي من أجل تشويه معالمها والنيل منها حتى أصبحت بمثابة "قميص عثمان" يرتديها من يشاء ليحقق أهدافاً هي أبعد ما تكون عن عدالة القضية ومكانتها وحجم التضحيات الحقيقية من أجلها، والشهداء الذين سقطوا في سبيلها، لذلك فإن صناعة "الإرهاب" لا تستهدف فقط تشويه "الإسلام" ولكنها تتجاوز ذلك أيضاً إلى تشويه القضية الفلسطينية والعبث بها . من هنا يبدو جلياً أن "الإرهاب" جناح مزدوج الشعور يسيء إلينا من كل اتجاه، وتقف وراءه قوى شريرة ليست بعيدة عن المنطقة، ويكفي أن نتساءل من هم أصحاب المصلحة في النتائج السلبية للإرهاب على المسلمين والعرب لكي ندرك القوى الخفية وراء "داعش" وأخواتها .
* رابعاً: إن العمل الإرهابي لا تنتهي جرائمه بين يومٍ وليلة، بل هو خطر ممتد يحتاج إلى نفسٍ طويل في مواجهته، لذلك فإنه عندما نقول إن الحرب على "الإرهاب" حربٌ طويلة فإننا لا نجافي الحقيقة لأن الأمر يحتاج إلى تحول ثقافي ضخم وعملية نوعية كبيرة تؤدي إلى غسيلٍ للعقول وتنقية للأفكار، وهذه كلها تحتاج للاهتمام بالثقافة والتعليم والإعلام والمؤسسات الدينية مثل "الأزهر" و"الأوقاف" و"دار الإفتاء"، ونحن نعوِّل كثيراً على أهمية التعليم للخروج من المأزق الذي نتعرض له وحتى نتمكن من مواجهة طاعون العصر وأعني به ذلك "الإرهاب الأسود" الذي يستهدف المدنية الإنسانية والحضارة البشرية ولندرك هنا أن الفنون والآداب وغيرهما من أدوات "القوة الناعمة" هي لوازم ضرورية لمكافحة هذا الوباء والتعريف بصحيح "الإسلام" وسماحته، وإظهار جانب العدالة للقضية الفلسطينية والتبصير بالحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني الذي تجري محاولات ملحوظة لدمج كفاحه الوطني بالإرهاب الإقليمي!
* خامساً: مازالت لدي قناعة شديدة بأن "الإرهاب" صناعة غربية لا تقف "الولايات المتحدة الأمريكية" بعيدة عنها كما ترصدها الدولة "العبرية" في رضا وسعادة وتحصد إيجابياً من كل محاولات إضعاف المنطقة وتقسيم دولها وتفكيك شعوبها، لأن هناك مصلحة مباشرة في ظهور التنظيمات الإرهابية الجديدة في المشرق العربي حتى تنشغل الجيوش وشعوبها من ورائها بالخطر الجديد الذي يستهدف استقرار المنطقة وترويع مجتمعاتها وتعطيل نهوضها وتقليص دورها الذي يجب أن يسعى نحو صناعة المستقبل، لذلك فإن الخطر الداهم من الإرهاب إنما يتجه نحو شعوبٍ لها قضاياها العادلة ومواقفها الثابتة وحقوقها المشروعة، وسوف تظل المواجهة بينها وبين جماعات "الإرهاب الدولي" محتدمة ربما لعقدٍ قادم من الزمان أو أكثر .
هذه قراءةٌ سريعة تدور حول ملف "الإرهاب" وأساليبه ومخاطره وهي كلها لا تخفى علينا فنحن جزءٌ من أجندة طويلة المدى تحتاج منّا إلى الصبر الطويل والرؤية الثاقبة مع سرعة المبادرة والقدرة على المناورة إذ لا يصح أن نكتفي بالإعلام الزاعق والتعبيرات الصارخة مهما بلغ بنا الضعف المرحلي أو التراجع القومي لأن الهزيمة قرار عقلي كما أن الانتصار قرار عقلي أيضاً .
التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دبلوماسي وباحث وأديب ومفكر ومؤرخ وكاتب، يمتلك خبرة واسعة في المجالات السياسية والثقافية ألَّف 36 كتابًا تسلط الضوء على بعض القضايا مثل الإصلاح السياسي والفكري القضاء على كل أشكال التمييز ضد الأقليات، والوحدة العربية والتضامن

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"