«التسامح» كقيمة عالمية

03:54 صباحا
قراءة 4 دقائق
فيصل جلول

«غياب التسامح» أو «اللاتسامح وحقوق الإنسان» كان محور نقاش خلال ندوة في جنيف نهاية الأسبوع الماضي في مقر الأمم المتحدة، وشارك فيها حقوقيون ومثقفون من بينهم هيثم مناع ولؤي ديب وموسى حسن وكاتب هذه السطور.
الجانب الحقوقي في هذه القضية معروف وبديهي وتزخر به أدبيات الأمم المتحدة، ويتمتع المحاضرون بأهلية لا ينازعون عليها، فهم ينتمون جميعاً إلى منظمات حقوقية غير حكومية وبالتالي تشكل القوانين والقرارات الأممية جزءاً كبيراً من اهتمامهم، لذا من المهم الحديث عن الأبعاد السياسية والاقتصادية والدينية لغياب التسامح، ومن ثم استخلاص بعض الأفكار التي يمكن أن تشكل مدخلاً لمجتمعات يسودها قبول الآخر والتعايش السلمي معه.
بداية لا بد من تعريف «غياب التسامح» بالقول إنه سلوك ينطوي على «رفض وجود أفكار ومعتقدات أو آراء مختلفة عن آراء الطرف المعني وبالتالي العمل على منعها أو قمعها أو معاقبة من يدافع عنها»، وإذا ما استخدمنا هذا التعريف الوارد في قاموس «لاروس» الفرنسي كمقياس على تسامح الحكام والحكومات في العالم لما عثرنا على بلد واحد يدعي التسامح المطلق بما في ذلك البلدان الغربية التي تعتمد أنظمة ديمقراطية.
هنا تكفي الإشارة إلى التمييز الاجتماعي بين المواطن الأصلي والأجنبي أو بين الأبيض والأسود وهو تمييز واقعي يتصل بمعتقدات الناس وسلوكهم وثقافتهم. ويتراوح التمييز بين استثناء الأجنبي من الوظائف المخصصة لأبناء البلد الأصليين وحصر موقعه في سوق العمل بالوظائف الخدماتية الدنيا التي يأنف الأصلي من العمل فيها وبين تحوله إلى مادة للكره والحقد من طرف التيارات العنصرية والعرقية.
أما في بلدان العالم الثالث فالأغلب هو تحول اللاتسامح من ظاهرة بسيطة إلى ظاهرة دموية، كما هو الحال في رواندا بين قبائل الهوتو والتوتسي، حيث سقط 800 ألف شخص من الهوتو في مجزرة شهيرة خلال أيام مرجعها التمييز القبلي المنعقد على تراتبية اقتصادية وسياسية.
والراجح أن اللاتسامح يرتبط عادة بالاقتصاديات المقفلة أو الريفية، فالنظام القائم في كوريا الشمالية يتبادل القليل جداً مع غيره ويعيش على التبادل الداخلي أو مع الصين المجاورة، وبالتالي لا يحتاج أو لا يستطيع إقامة علاقات انفتاحية تحمل معها أوكسجين التسامح، لذا نرى أن الاقتصاد المقفل يهبط بالتسامح إلى أدنى المراتب، لأنه لا يحتاج إلى الآخر وينظر إليه بوصفه منافساً أو عدواً وليس شريكاً.
بالمقابل يلاحظ أن اقتصاد السوق الحر يتطلب شراكة اقتصادية مع كل الناس ويتيح فرصاً أكبر للتسامح علماً أنه يتسبب عادة بتدمير اقتصادات ناشئة وبالتالي يرمي بأصحابها وبلدانها إلى التهلكة. بيد أن اقتصاد السوق وعلى الرغم من مساوئه فإنه يتيح فرصة للتنافس ولحفظ المصالح وأحياناً للتقدم إذا ما أحسن الطرف المعني استغلالها وفق قواعدها الأصلية ولنا في النمور الآسيوية أمثلة لا تخطيء.
أما في المجال الديني فيمكن القول إن النزعة الخلاصية التي تنشرها الأديان لا تحمل لغير المتدينين وعوداً وردية. وهنا نبدأ باليهودية أول الأديان التي تكفر ما تلاها وصولاً إلى الحاخامات الصهاينة في الدولة العبرية الذين يدعون إلى طرد العرب المسلمين والمسيحيين من فلسطين التي رسموها كدولة حصرية وطوبوها لأنفسهم بواسطة التوراة التي أصبحت وثيقة عقارية لاستملاك فلسطين من دون أهلها.
وفي المسيحية لاحظنا كيف تمت مجزرة «سان برتيليمي» الفرنسية الكاثوليكية الشهيرة ضد البروتستانت في 24 أغسطس/آب عام 1575 م في باريس وامتدت إلى مناطق أخرى وأدت إلى سقوط عشرات الآلاف من أنصار المذهب البروتستانتي رغم أن من أهم وصايا المسيح قوله «من ضربك على خدك الأيمن أدر له الأيسر». وفي هذا المجال يقول القديس الفيلسوف توما الأكويني وهو الأكثر اعتدالاً في الكنيسة الكاثوليكية «إن الهرطوقي يستحق ليس فقط الحرمان الكنسي وإنما أيضاً الحرمان من الحياة» والهرطوقي هو كل من ليس كاثوليكياً.
وفي الإسلام لا جدال في الآية التي تقول «من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر» وفي قول الإمام علي بن أبي طالب في نهج البلاغة «الناس صنفان أخ لك في الدين وأخ لك في الخلق».. ما يعني أن التسامح قاعدة إسلامية ذهبية، وهي التي حفظت بقاء معتنقي الأديان الأخرى في بلاد المسلمين حتى اليوم، الأمر الذي يتعارض مع التكفير الذي تمارسه الجماعات الدينية المتطرفة ومن بينها «داعش» التي تقتل من يخالفها المعتقد من دون تمييز بين المسلمين ومعتنقي الأديان الأخرى.
ما من شك في أن التصدي لظاهرة اللاتسامح يستدعي ليس مطالبة الحكام بنشر التسامح في دولهم ذلك أن الحاكم الذي يمنح «التسامح» يمكن أن يتراجع عن منحته وبالتالي لا يمكن لهذه القيمة النبيلة أن تظل معلقة على حسن نية الحاكم بل يجب أن تتحول إلى قيمة مستقلة يدافع عنها الناس بوصفها سبباً بوجودهم. وحتى يتم لهم ذلك لا بد من دخولها في برامج التعليم والتأهيل في العالم وأن تنشأ وتكبر مع الأجيال في كل مكان بحيث تكون كشارة السير الحمراء ينطوي تجاوزها على عقوبات أخلاقية بوصفها عيباً لا يجوز اختراقه.
وفي هذا المجال يمكن للأمم المتحدة أن تلعب دوراً رائداً، وبخاصة منظمة اليونيسكو التي تهتم بالتربية والعلوم والثقافة عبر إدخال التسامح قاعدة أيضاً في التربية والتعليم على مستوى الكرة الأرضية بأسرها، ومع انتشارها يمكن الرهان على مستقبل بلا مجازر شنيعة كتلك التي وقعت في راوندا وسيربرينيتشا وصبرا وشاتيلا ودير ياسين شرط أن يترافق ذلك مع إعادة توزيع الثروة العالمية بحيث لا يبيت كائن واحد على الطوى.. قد يكون هذا مطلب طوباوي، لكن هل من سبيل آخر لعالم أفضل؟

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"