أوكرانيا تجتاز عتبة الحرب الأهلية

05:00 صباحا
قراءة 4 دقائق
طرحت الأزمة الأوكرانية سؤالاً قلما تجرأ أحد على طرحه منذ عقود طويلة حول احتمال تسببها باندلاع الحرب العالمية الثالثة . وحجة الطارح أو الطارحين هي أن الروس والغربيين يضيق أمامهم هامش المناورة ويتشبث كل بموقفه، مفترضاً أن ما يدور في هذا البلد محمّل بمصالح استراتيجية غير قابلة للتفاوض بالنسبة للطرفين، فمن جهة يعتبر الغربيون أن سقوط أوكرانيا تحت القبضة الروسية من شأنه أن يثير الرعب في البلدان الشرقية التي تحررت من النفوذ السوفييتي التي تخشى على مستقبلها إذا ما ضعف الغرب وعجز عن حمايتها كما يعجز الآن عن حماية أوكرانيا .
أضف إلى ذلك مخاوف الغربيين من تصاعد السياسة الروسية الهجومية استناداً إلى السابقة الأوكرانية وبالتالي تجرؤ موسكو (التي خسرت الحرب الباردة) على الأوروبيين والتعاطي معهم على غير صعيد بلغة القوة والضم واستخدام الرساميل والغاز والطاقة عموماً كأسلحة في العلاقات الثنائية .
من جهته يخشى فلادمير بوتين من أن يواصل الغربيون التدخل السافر في البلدان الواقعة على حدوده أي في حديقته الخلفية وبالتالي تطويق بلاده بأنظمة موالية للغرب ومستندة إليه للانتقام المحتمل من روسيا أو لاخضاعها اقتصادياً . ولعل هذا ما يفسر سرعة التحرك الروسي دفاعاً عن انفصال أوسيتيا الجنوبية وأبخازيا عن جورجيا عام 2008 وإعادة الكرة في ضم شبه جزيرة القرم إلى الاتحاد الروسي بعد استفتاء كانت نتائجه محسومة سلفاً لمصلحة الانضمام . وقد تلا ذلك إعلان صريح من الكرملين أن ما جرى في القرم لا عودة عنه وأن ضم هذا الميناء الاستراتيجي للاتحاد الروسي غير قابل للنقض أو البحث .
ولعل التطورات التي جرت من بعد في مدن شرق وجنوب أوكرانيا وصولاً إلى الاستفتاء الانفصالي الأحد الماضي قد عزز المخاوف من تصعيد غير مسبوق ذلك، أن انفصال الشرق والجنوب الموالي لروسيا من شأنه أن يطيح بأوكرانيا كبلد مستقل، وستكون الاطاحة بها مثالاً على ما يمكن أن يحصل عندما يشجع الغرب بلداً محاذياً لروسيا على تحدي ارادتها وعلى تهديد امنها ومصالحها . من جهة ثانية سيعتبر انهيار أوكرانيا مثالاً على ما يمكن أن يقع للدول المحاذية لروسيا والراغبة في انتهاج سياسة مناهضة لها بغطاء أمريكي أو أوروبي ما يعني أن الحفاظ على المصداقية والضمان الغربي يحتاج إلى تراجع روسي أو مساومة أوكرانية داخلية وهو أمر تغيب مؤشراته حتى الساعة في حين يحتاج بوتين إلى مساومة أوكرانية داخلية حتى لا يضطر إلى التصعيد أكثر وبالتالي الاضطرار إلى خوض مواجهة مفتوحة مع الغربيين لا يحبذها ولا يريدها .
قد يفصح ما سبق عن انطباع مفاده أن الروس هم الذين استدرجوا الغربيين إلى الفخ الأوكراني لإظهار ضعفهم وعجزهم أمام القوة الروسية الصاعدة، بيد أن هذا الانطباع خاطئ ولا قيمة له فقد حسم الجدل حوله من طرف قيادات غربية مهمة شأن هنري كيسنجر والمستشار الألماني السابق جيرهارد شرودر وأكدا أن الغربيين وضعوا بوتين أمام الأمر الواقع في بداية الأزمة عندما ضغطوا على أوكرانيا وحملوها على اعتماد خيار من اثنين: إما الاتحاد الجمركي مع روسيا وهو ما كان الروس على أتم الاستعداد له وإما اتفاق الشركة مع الاتحاد الأوروبي . ورفض الأوروبيون علناً كل مساومة في هذا الخصوص في حين كان بوسعهم أن يعتمدوا المثال الفنلندي فقد عاشت فنلدا طويلاً خلال الحرب الباردة بين قطبي هذه الحرب وخرجت منها سالمة ومعافاة وهو ما كان يمكن ان يقع في أوكرانيا لولا الشعور الغربي بالعظمة وبالقوة التي لا تقهر ولولا محاولة فرض إرادتهم على الروس وعلى حلفائهم الأوكرانيين .
وعلى الرغم من الانسداد السياسي الواضح في هذه القضية فانه لمن الصعب ترجيح وقوع الحرب العالمية الثالثة جرائها وذلك لأسباب عديدة من بينها أن بوتين "ليس هتلر الألفية الثالثة" ولا يسعى للسيطرة على أوروبا والعالم بحسب هنري كيسنجر وزير الخارجية الأمريكية الأسبق، وثانياً لأن الأوروبيين وهم الأقرب إلى الأزمة يميلون إلى المساومة ولا يتحدثون عن الحل العسكري بل وصل الأمر إلى حد إعلان الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند عن التزام بلاده بتسليم الروس فرقاطتين حربيتين استراتيجيتين من طراز "ميسترال" كان قد تم التعاقد بشأنهما في العام 2011 وأن هذه الصفقة التي طلبت واشنطن الغاءها لن تدخل في نظام العقوبات المقترحة على روسيا والسبب الثالث والاهم من كل ما سبق هو ان الغربيين والروس يملكون الوسائل لتدمير بعضهم بعضاً لعشرات المرات وبالتالي من الصعب ان تندلع حرب بينهم على الطريقة التقليدية كما جرى خلال الحرب العالمية الثانية، وأن استخدام أسلحة الدمار الشامل يمكن أن يطيح بوجود الطرفين، وبما أن الحرب تخاض عادة من أجل قهر الخصم وفرض شروط الغالب عليه، فإن خوضها بأسلحة الدمار الشامل يفضى إلى دمار للطرفين وإلى انتصار الخراب وحده . يبقى السبب الرابع والأخير وهو يتعلق بتجربة الحرب الباردة التي سادت الشطر الأعظم من القرن العشرين جراء اقتناع الطرفين بأن هذه الحرب هي الأفضل من حرب تفضي إلى الدمار الشامل ومن غير المستبعد أن يعود الروس والأمريكان إلى هذه الصيغة خصوصاً بعد موجات العقوبات الاقتصادية التي فرضتها واشنطن وسيفرضها الاتحاد الأوروبي على الاتحاد الروسي .
في هذا الوقت ربما ستدفع أوكرانيا فاتورة باهظة لهذا الصراع فهي خسرت القرم ومن الصعب عليها ان تستعيد نفوذها في شرق وجنوب البلاد ما يعني أن وحدة أراضيها صارت عملياً محل إعادة نظر وأن الحرب الأهلية الأوكرانية صارت أقرب إلى الاندلاع من أي يوم مضى كبديل للحرب العالمية الثالثة وكمحطة أولى للحرب الباردة بين طرفين دوليين كانا حتى الأمس القريب شركاء لا أعداء .

فيصل جلول

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"