لعبت الفنون دوراً أساسياً في توثيق الحروب في مناطق عديدة في العالم، وهذه الوظيفة كما حال الثقافة بتنوع أدواتها، سواء في الصحف أو وسائل الإعلام المختلفة، وكما في الكتب والمنشورات، إنما تعبر عن رأي ووجهة نظر، بل تقدم أطروحتها الاجتماعية والفنية والإنسانية بوجه عام، على هامش الحروب والنزاعات التي تحدث هنا وهناك.
في إسبانيا، على سبيل المثال، كانت تداعيات الحرب الأهلية حاضرة عند كثير من الفنانين العالميين، ومنهم بيكاسو الذي رسم «غرنيكا» بتكليف من الحكومة الإسبانية في الجمهورية الثانية (1931 - 1939)، لتعرض في الجناح الإسباني في المعرض الدولي للتقنيات والفنون المعاصرة في باريس 1937.
صورت اللوحة قصف بلدة «غرنيكا» في الباسك شمال إسبانيا، من قبل الطائرات الحربية الألمانية والإيطالية التي ساعدت قوات القوميين الإسبان بقيادة الجنرال فرانكو.
وفي ذاكرة الفنون العالمية هناك الكثير من اللوحات الشهيرة التي استلهمت مآسي أو انتصارات الحروب، منها على سبيل المثال اللوحة الشهيرة لرسام الزيت الإيطالي «باولو أوتشيلو» (1397 - 1475) الذي أرخ لمعركة سان ريمو في عصر النهضة، من خلال ثلاث لوحات، حاول أوتشيلو من خلالها أن يمجد نصر فلورنسا على سيينا، بنوع من التباهي، فأبرزت لوحاته فخامة أدوات القتال بنوع من التباهي السياسي.
وفي ذات الإطار الذي يؤرخ للحروب بوصفها انتصارات، وحققت إنجازات في ميدان المعركة، نشير إلى الرسام «دييغو فيلاسكيز» الفنان الواقعي الأشهر في أوروبا القرن السابع عشر الذي أبدع لوحة تؤرخ لحرب استسلام «بريدا» الإسبانية في الفترة ما بين 1634-1635، وكانت اللوحة مثار جدل بين كونها تاريخية أو احتفالية للنصر الإسباني النادر، حيث تبرز ملامح المعركة في صورة تمجيد القوة العسكرية، وما استخدم فيها من معدات وأدوات قتال، والأمر نفسه يمكن تمثيله من خلال لوحات «الثاني من مايو» و«الثالث من مايو» ل «فرانشيسكو غويا» الذي صور عظمة الاستشهاد لمصلحة الوطن، وجسدت احتفالية للنصر، وتصور صمود المقاومة الإسبانية في وجه جيوش نابليون.
لكن في مقابل ذلك كانت مآسي الحروب حاضرة في لوحات كثيرة، على سبيل المثال ما قدمته أشهر فناني ألمانيا القرن العشرين «كاتي كولفيتز» التي مارست النقش على النحاس والطباعة الحريرية، وصورت بعض لوحاتها، كما في «سلسلة الحرب 1923»، ضحايا الحروب ليس فقط أولئك الذين يشاركون فيها، بل أيضاً من طالتهم مآسيها، وعانوا وحشية وقهر وحرمان نتائجها من الناس البسطاء. وهو الذي يمكن تمثيله على لوحات تصور وحشية الجنود الفرنسيين إبان غزو نابليون لمصر.
وهكذا بين التوثيق والدعاية وتمجيد الشهادة في ميدان المعارك، وبين النقد الحاد وتسجيل الموقف، حضرت الفنون شاهدة على تاريخ العالم، لا يمكن التقليل من أثرها، وما تعكسه من إبداع، وما تولده من أثر ثقافي وفكري في المجتمع.