«عدالة» لاهاي!

03:34 صباحا
قراءة 4 دقائق
عبدالحسين شعبان

«أنا أفكر، إذاً أنا موجود» عبارة طالما حضرت في النقاشات الحامية لجيل الستينات، وهي منسوبة ل «أبو الفلسفة الحديثة» رينيه ديكارت، صاحب «نظرية الشك» وصولاً إلى اليقين. مثلها مثل عبارة باروخ سبينوزا صاحب التفكير الراديكالي وفيلسوف الطبيعة، «ميزان الإنسان قلبه»، وعادت ذاكرتي إلى متحف فان كوخ، وكل تلك القامات الشامخة خطرت ببالي وأنا في زيارة رسمية لهولندا مع فريق عربي أكاديمي متميز شمل ثماني جامعات لبنانية.
ومثلما تتميز هولندا بصروحها الثقافية، فهي تشتهر أيضاً بصروحها القانونية الدولية الكبرى، ف «لاهاي» مثلها مثل جنيف وفيينا (في أوروبا) ونيويورك في الولايات المتحدة تعتبر مركزاً دولياً لمؤسسات دولية متعددة، خصوصاً مؤسسات صنع السلام وتحقيق العدالة، وهو ما نحتاج إليه في منطقتنا. أما المنظمات الدولية الكبرى والتي استضافت الفريق الأكاديمي والخبراء الدوليين فهي:
أولها: محكمة العدل الدولية التي أُسست بموجب ميثاق الأمم المتحدة الذي تم التوقيع عليه في سان فرانسيسكو في ال 26 من حزيران / يونيو 1945، ومقرها في قصر السلام «المنيف» الذي يطلق عليه أحياناً «مقر القانون الدولي»، ووظيفة المحكمة الفصل في النزاعات بين الدول التي تقبل بولايتها، وتفسير قواعد القانون الدولي والاتفاقيات الدولية.
وثانيها: المحكمة الجنائية الدولية التي أُسست في روما ( 17 من يوليو / تموز 1998)، حيث أُبرم «نظام روما الأساسي» الذي دخل حيّز النفاذ في الأول من يوليو / تموز 2002، وأودع لدى الأمانة العامة للأمم المتحدة. ويفترض فيها البت في القضايا الجنائية وإصدار أحكام قضائية وفقاً لنظامها الأساسي.
وثالثها: أكاديمية لاهاي للقانون الدولي، وهي مركز دولي رفيع المستوى، وتقام فيه فعاليات فكرية وتعليمية متخصصة في القانون الدولي الخاص.
كما تستضيف لاهاي محكمة التحكيم الدائمة التي أُسست في عام 1899 نتيجة لمؤتمر لاهاي للسلام، وهو ما يجعلها أقدم مؤسسة للتسوية الدولية، وكانت لاهاي مركزاً للمحكمة الدولية لجرائم الحرب في يوغسلافيا التي أُسست بموجب قرار مجلس الأمن رقم 827 في ال 25 من مايو / أيار 1993، وفي الوقت نفسه كانت مقراً ل «هيئة الاستئناف التابعة للمحكمة الجنائية الدولية لجرائم الحرب في رواندا»، حيث أُسست في تنزانيا في عام 1994، واستضافت أيضاً «محكمة الأمم المتحدة للتحقيق ومحاكمة المتهمين في اغتيال رئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري» التي أُسست عام 2009، حيث استقبلتنا رئيسة المحكمة السيّدة ايفانا هردليشكوفا.
وهناك منظمات دولية أخرى مثل منظمة حظر الأسلحة الكيمياوية التي أُسست في عام 1997، وكذلك مكتب الشرطة الأوروبية الذي أُسس عام 1998، ومنظمة الأمم والشعوب غير الأعضاء في الأمم المتحدة التي أُسست عام 1991.
وبالعودة إلى عنوان المقالة، تعتبر المحكمة الجنائية الدولية أول هيئة قضائية دولية، تحظى بولاية عالمية وبزمن غير محدّد، لمحاكمة مجرمي الحرب ومرتكبي الفظائع بحق الإنسانية وجرائم إبادة الجنس البشري، فللمرّة الأولى في التاريخ، تُكلَّف هيئة قضائية دولية دائمة لحماية حقوق الإنسان، بما توفره من إقرار الدول الموقعة عليها، وبالتالي المجتمع الدولي مبدأ «العدالة الشاملة» و«عدم الإفلات من العقاب» عن تلك الجرائم الخطيرة بحق الضمير الإنساني على المستوى الدولي.
إن وجود قضاء جنائي دولي مستقل ومحايد يمارس اختصاصاته على جميع الأشخاص من دون تمييز لتحقيق العدالة الدولية، أمر في غاية الأهمية في تطور الفقه والقضاء الدوليين على الصعيدين النظري والعملي.
وإذا كان الاعتبار الأكاديمي وراء زيارة الصروح القانونية الكبرى، فإن الاعتبار الإنساني والحقوقي كان واحداً من أهداف هذه الزيارة الرفيعة المستوى، خصوصاً بما له علاقة بأوضاع منطقتنا وبشكل خاص بالقانون الإنساني الدولي وحقوق الإنسان، ولا سيّما تأثيرات الحروب وأعمال العدوان والإرهاب والعنف التي عانت، ولا تزال، منها.
إن جعل ولاية القضاء الدولي دائمة يعطيها فرصة الملاحقة عن الجرائم المرتكبة لإنزال العقاب بمرتكبيها، علماً بأن تلك الجرائم لا تسقط بالتقادم، ولذلك كان تأسيس المحكمة الجنائية الدولية «حدث تاريخي»، حسب ماري روبنسون المفوضة السابقة لحقوق الإنسان، و«خطوة عملاقة نحو تحقيق شمولية القانون والسياسة» طبقاً لكوفي أنان الأمين العام الأسبق للأمم المتحدة.
وللأسف فإن عدم التحاق دول عظمى بالمحكمة الجنائية الدولية أضعف من مكانتها، فعلى سبيل المثال انسحبت الولايات المتحدة منها عشية دخولها حيّز التنفيذ، أما الصين وروسيا، فليستا عضوين فيها، كما أن «إسرائيل» اعترضت على اعتبار الاستيطان جريمة دولية تستحق العقاب، وانسحبت منها كذلك عند دخولها حيّز التنفيذ، وهي الدولة الأكثر عدوانية على الصعيد العالمي، خصوصاً لمنطقتنا العربية.
إن افتقار المحكمة إلى آلية فعّالة لتنفيذ قراراتها، يعني بقاءها عائمة، لأنها لا تستطيع إجبار المتهمين على المثول أمامها (ولا سيّما إذا كانوا مسؤولين كباراً، فما بالك إذا كانوا رؤساء الدول؟)، ثم هل تقبل الدول أن تكون جهازاً تنفيذياً للمحكمة لإلقاء القبض على المتهمين؟ ولعلّ تلك التساؤلات الأكاديمية هي أيضاً هواجس لكل من يبحث عن العدالة ومن تشغله مسألة إنصاف الضحايا.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

أكاديمي ومفكر وكاتب عراقي، وهو نائب رئيس جامعة اللاّعنف وحقوق الإنسان (أونور) في بيروت. له مساهمات متميّزة في إطار التجديد والتنوير والحداثة والثقافة والنقد. يهتم بقضايا الديمقراطية وحقوق الإنسان والمجتمع المدني والأديان، والدساتير والقوانين الدولية والنزاعات والحروب. صاحب نحو 70 كتاباً ومؤلفاً.

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"