بيت من ورق في واشنطن

05:01 صباحا
قراءة 4 دقائق
عبد الله السناوي

«بيت من ورق»، الذي توافرت له إمكانات إنتاجية ضخمة، يكاد يجعلك تعتقد حقاً أنك في ردهات البيت الأبيض، أو في أروقة الكونجرس

بقدر الدور المحوري الذي يلعبه البيت الأبيض في صراعات القوى، والاستراتيجيات، والنفوذ، والمصالح، تكتسب أسراره وخفاياه إثارة سياسية تتجاوز الولايات المتحدة إلى العالم بأسره.

ما يحدث في البيت الأبيض ليس شأناً خاصاً، ولا موضوعاً اعتيادياً في النميمة السياسية، وما يتكشف من أسرار وخفايا يساعد على كشف مجمل الصورة في صناعة القرار الأمريكي، وما يشوبه أحياناً من مصالح ليست فوق مستوى الشبهات، وأهواء شخصية طاغية، وعقد بشر مستحكمة.

على التوالي صدر كتابان ل«جون بولتون» مستشار الأمن القومي السابق، و«ماري ترامب» ابنة شقيق الرئيس الأمريكي، يدخلان بطبيعة مادتيهما في أجواء الانتخابات الرئاسية الأمريكية مطلع نوفمبر/ تشرين الثاني المقبل.

ولا يخفى الطابع الانتقامي في كلا الكتابين، «بولتون» على خلفية طرده من موقعه الذي طالما تطلع إليه.. و«ماري» على خلفية ما جرى لوالدها من تحطيم مقصود أفضى إلى وفاته مبكراً، وحرمانها، مع شقيقها، من ميراث جدهما.

الأول، حاول أن يرسم صورة مقربة ل«أقوى رجل في العالم» بأنه أهوج، وجاهل، لا يعرف معلومات أساسية في السياسة الدولية، تحكمه مصالحه الشخصية قبل مصالح بلاده، ومستعد لأن يفعل أي شيء مقابل تجديد ولايته الرئاسية.

والثانية، حاولت أن ترسم صورة مقربة أخرى ل«أخطر رجل في العالم»، مشاحنات وتناقضات عائلته، سماته، وخصاله، وعقده النفسية التي تتجلى في التنمّر، والتكبر، والنرجسية المفرطة، وشكّكت في أهليته للرئاسة، ونقلت عن إحدى شقيقاته نعته ب«الأحمق»، كما وصمته بالاحتيال منذ بداياته الأولى، عندما استأجر طالباً متفوقاً لكي يؤدي بالنيابة عنه الامتحانات التأهيلية لجامعة «بنسلفانيا».

في الكتابين بدا البيت الأبيض هشاً يضرب التحلل السياسي والأخلاقي بنيته على نحو يشبه المسلسل الأمريكي «بيت من ورق»، الذي أنتج في ستة أجزاء في الفترة بين عامي (2013-2018)، أي قبل، وأثناء ولاية «ترامب» الحالية، التي بدأت عام (2016).

لم يكن المسلسل التلفزيوني متجنياً، سياسياً وأخلاقياً، على ساكني البيت الأبيض، إذا ما قورن محتواه الدرامي مع ما جرى نشره في الكتابين المثيرين.

في المسلسل تبدّت صراعات ومؤامرات في ردهات البيت الأبيض، استبيحت كل الوسائل عنفاً ورشى، وجرت صدامات لوبيات وشركات كبرى في إدارة العلاقات الاستراتيجية والاقتصادية مع الدول الكبرى، أو عند تمرير تشريعات، أو قبل اختيار الرئاسات نفسها.

وكان صعود الرئيس الافتراضي «فرانك اندروود»، للرئاسة تجسيدا للانتهازية السياسية، فكل شيء مباح بلا أدنى محرمات سياسية، أو أخلاقية، داس في طريقه كل الذين وثقوا به، وأطاح، متآمراً، بالرئيس الذي عينه نائباً حتى يحل مكانه سيداً أول في البيت الأبيض.

بدت شخصية «اندروود» مزيجاً من الرؤساء الأمريكيين السابقين «ريتشارد نيكسون»، و«بيل كلينتون»، و«جورج دبليو بوش»، والحالي «دونالد ترامب».

فيه من «نيكسون» قوة شخصيته وقدرته على السيطرة ووسائله، كالتجسس على خصومه السياسيين، وبعض ما جرى له من محاسبة أمام الكونجرس اضطرته للاستقالة طلباً للعفو من نائبه الذي أصبح رئيساً.

وفيه من «كلينتون» شراكة الحكم والنفوذ مع زوجته «هيلاري»، وقد كانت علاقة معقدة ولم تخف الزوجة في أي وقت طموحها إلى أن تجلس على مقعد زوجها.

وفيه من «بوش» إثارة الخوف والفزع، ودخول الحروب لتأكيد مركزه، وإضفاء القوة عليه، وشيء مما جرى في الانتخابات التي أدت إلى صعوده على حساب المرشح الديمقراطي «آل جور» النائب السابق للرئيس «كلينتون»، بفارق بسيط من الأصوات أحاطته تساؤلات، وشكوك.

وفيه من «ترامب» بعض أسراره العائلية، التي تسربت قبل فترة من ابنة شقيقه نفسها إلى ال«نيويورك تايمز»، واستخدامها النص الدرامي لإلقاء أضواء إضافية من مادة الواقع لما يجري في بيت من ورق.

كان والد «فرانك اندروود» عضواً في جماعة «كوكلوكس كلان» العنصرية البيضاء المتطرفة، حاول ابنه إخفاء الحقيقة حتى لا تؤثر في فرصه السياسية، لكنها عندما داهمته صورها اضطر أن يفسرها بحاجة والده المأزوم مالياً، إلى مساعدته لتوفير احتياجات أسرته.

وفي حالة «ترامب» يصعب تسويغ مثل هذه الحجة، فوالده رجل مقاولات بالغ الثراء شارك مطلع شبابه، حسبما تروي حفيدته، في مسيرات للجماعة العنصرية المتطرفة.

والفارق بين «اندروود» و«ترامب»، أو بين الدراما والحقيقة، أن الأول حاول أن يبرر ويتبرأ.. والثاني مضى على الطريق نفسه.

«اندروود» ادعى احترامه لوالده، وتأثره بظروفه التي دعته لالتقاط صورة مخجلة وسط جماعة عنصرية، وفور صعوده للبيت الأبيض ذهب لزيارة قبره، لكنه عندما ابتعدت الكاميرات احتراماً لمشاعره، ارتكب فعلاً شنيعاً لا يوضع على ورق.

على الجانب الآخر، لم يستشعر «ترامب» أي أزمة في ماضي والده، تبنى الخيارات نفسها من دون انضمام لمثل هذه المنظمات التي تعلن تأييدها له، مع ذلك فهو لم يُكنّ احتراماً حقيقياً لوالده الذي فضّله على أخوته، وسخر منه عندما أصابه خرف الشيخوخة.

وباستثناء جرعات العنف والجنس الزائدة، فإن «بيت من ورق»، الذي توافرت له إمكانات إنتاجية ضخمة، يكاد يجعلك تعتقد حقاً أنك في ردهات البيت الأبيض، أو في أروقة الكونجرس، وهو يكاد يصنع صورة مقربة ثالثة، تضاهي كتابي «جون بولتون»، و«ماري ترامب»، لما يجرى فعلاً في بيت من ورق.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"