«بريكسيت» يسير في طرق مسدودة

03:13 صباحا
قراءة 4 دقائق
تتجمع مؤشرات قوية حول صعوبات تواجهها بريطانيا في ترجمة الاقتراع الناجح بالخروج من الاتحاد الأوروبي، ما يفيد بأن الذين قادوا حملة الخروج ما كانت لديهم حسابات لليوم التالي، ولا برنامج واضح المعالم للتفاوض على الانسحاب المنظم والمفيد. والواضح أن تيار الانفصال ما كان يحسب حجم وقوة الارتداد الاقتصادي، حيث تفيد التقديرات المتداولة عن إصابة الاسترليني بخسارة قياسية، وعن احتمال وصول أكثر من نصف مليون بريطاني إلى سوق البطالة، في المدى المنظور، وعن خروج مؤسسات مصرفية وشركات، كلياً أو جزئياً، من لندن، ناهيك عن خسارة استثمارات لا نستطيع تقدير حجمها مسبقاً.
والبادي أن تيار الانفصال عن أوروبا ما كان يحسب النتائج السلبية التي تترتب على تكوين المملكة نفسها. فقد بينت خريطة الاقتراع، أن إسكتلندا صوتت لصالح البقاء في الاتحاد بنسبة كبيرة تناهز ال 60 بالمئة من الأصوات، وبالتالي لن تتردد بتنظيم استفتاء للانفصال عن بريطانيا. فيما ترى إيرلندا أن أوروبا كانت الضامن لاتفاق الحدود وللسلام مع بريطانيا، وعندما يغيب الضامن تعود مشكلة الحدود إلى المسرح من جديد، وهو أمر من الصعب أيضاً تقدير خطورته مسبقاً.
أما جبل طارق الذي صوّت بنسبة قياسية لصالح البقاء في أوروبا، فإن مدريد لن تتردد في رفع العلم الإسباني على الصخرة برغبة مواطنيها هذه المرة وبأكثريتهم المطلقة، الأمر الذي يذكر بحالة القرم وإن كان التوقع في هذه الحالة هو ألّا يدخل الجبل في نزاع حاد وعنيف بين الطرفين.
موجز القول في هذه النقطة أن الانشقاق البريطاني عن الاتحاد الأوروبي، يستدرج بالضرورة انشقاقات بريطانية، وبالتالي تهديد وحدة المملكة التاريخية. وإن صحت التوقعات فإن بريطانيا الموحدة التي دخلت الاتحاد الأوروبي طوعاً قد تخرج منه مقطعة الأوصال، وبالتالي فإن ال «بريكسيت» ما كان عملاً عبقرياً أقله بالنسبة لوحدة المملكة.

في السياق نفسه ترتسم أزمة أخرى غير مسبوقة جرّاء الاستفتاء، ذلك أن النواب الذين اقترعوا ضد الخروج بلغت نسبتهم 75 بالمئة، وبالتالي كيف يمكن للأغلبية البرلمانية أن تصادق على الانفصال وهي التي لا تريده، وقد فعلت ذلك باسم مواطنيها الذين منحوا النواب ثقتهم.

ولا تقف الصعوبات الداخلية عند هذا الحد، فالانقسام البريطاني بين الراغبين والرافضين للاتحاد الأوروبي ليس من النوع القابل للحل بخضوع الأقلية للأكثرية؛ لأنه يتعلق أصلاً بمصير المملكة نفسها وليس بمصير الحكومة، ما يعني أن على الذين اقترعوا لصالح مصير البلاد خارج الاتحاد، أن يطلبوا تضامن المتضررين من هذا الخروج. ولو كان الضرر قابلاً للتعويض المضمون، لربما هان الأمر، لكنه معلق على رؤى افتراضية غير مختبرة وغير مؤكدة سندها تقديرات على المدى المتوسط والبعيد.

لكن ماذا عن المدى المنظور ومن يضمن أن يتم تجميد الضرر خلاله وكيف؟ أضف إلى ذلك الانشقاقات التي بدأت ملامحها بالظهور داخل المؤسسات الحزبية نفسها والمرشحة للاستمرار، ناهيك عن التنافس الحاد حول حكومة «البريكسيت» التي استدرجت شخصيات بالجملة في حزب المحافظين، فيما تنتشر حملة انتقادات واسعة في حزب العمال الذي لم تدافع قيادته عن قرار البقاء في أوروبا بحماسة كبيرة. وإذا كان من المرجح أن يتولى بوريس جونسون وزارة المحافظين، لكنه هو نفسه لا يملك بعد خطة واضحة للانفصال.
أضف إلى ذلك مدة الخروج المحددة بسنتين، والتي يمكن أن تمتد إلى زمن أطول، فإن طال زمن الانفصال تضرر الاتحاد الأوروبي، وإن خرجت بريطانيا بشروطها فإن هذا الخروج سيشجع دولاً أخرى، أما إن خرجت بشروط الاتحاد فإن ذلك سيردع خروجاً آخر.

من جهته يبدو أن الاتحاد الأوروبي ما كان أيضاً يرسم خططاً لما بعد الانسحاب البريطاني، وبالتالي فإن نتائج الاستفتاء فاجأته. وحتى لا يسود التراخي وتنتشر الفوضى والفراغ ها هو يستعجل طلب الانسحاب، الأمر الذي ترفضه بريطانيا الراغبة بخروج هادئ ومضمون واتفاقيات، تسمح لها بالإفادة من الاتحاد دون تحمل كلفة الانتماء إليه. وهذا يمكن أن يهدد جدياً الوحدة الأوروبية؛ لأنه يغري أعضاء آخرين بالسير على خطى بريطانيا.

يرسم ما سبق صورة قاتمة لما بعد الاستفتاء البريطاني بالنسبة للطرفين، ذلك أن أوروبا متضررة بالقدر نفسه، فهي خسرت المركز المالي الأهم في العالم بخروج بريطانيا التي تحتفظ أيضاً بمقعد في مجلس الأمن، وهي دولة نووية وتمثل الاقتصاد الثاني في أوروبا، فضلاً عن أن خروجها يوجّه ضربة قاسية لفكرة التوحيد الأوروبي نفسها. ولعل الصدمة هنا أيضاً ليست أقل وليست سهلة الهضم والتكيف، الأمر الذي يوحي لبعضٍ بالقول، إن حاصل الضرر للطرفين قد يدفع باتجاه حل آخر على غرار الحلول التي اعتمدت في حالات مماثلة. فقد اقترعت فرنسا وهولندا ب «لا» على مشروع الدستور الأوروبي، وتمّت تسوية الأمر من بعد بطريقة مرضية للطرفين. وفي العام 2008 رفضت إيرلندا الميثاق في استفتاء شعبي فحصلت على تنازلات وأعيد الاقتراع بنجاح في العام 2009. ومعلوم أن الشعب اليوناني اقترع بنسبة 60 بالمئة ضد برنامج الإصلاحات الذي وضعه الاتحاد الأوروبي كشرط لحصول اليونان على قروض دولية ولكن تسيبراس بادر إلى تسوية مع الاتحاد الأوروبي بدلاً من التمسك الحرفي بنتائج الاستفتاء، وبالتالي فإن بريطانيا يمكن أن تسير على النهج نفسه بعد الحصول عل أفضليات مرضية.. ليس أكيداً حظوظ هذا الاحتمال الذي يحتاج بدوره إلى تفاوض ليس ميسراً بعد.

فيصل جلول
[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"