مستقبل العالم

03:59 صباحا
قراءة دقيقتين
د. حسن مدن

حين أصدر برتراند راسل كتابه: «هل للإنسان مستقبل»، كان الاتحاد السوفييتي وعمقه الجيوسياسي في أوروبا الشرقية قائمين. وكانت خشية راسل من حرب عالمية ثالثة، في المقام الأول، من بلوغ حدة الاستقطاب والمواجهة بين الحلفين العالميين يومذاك: حلف وارسو وحلف شمال الأطلسي، درجة لا يعود ممكناً بعدها الاستمرار في حال التعايش بين المعسكرين الغربي والشرقي، الرأسمالي والاشتراكي، فتنفجر حرب لن يكون فيها منتصر، لأنها لن تُبقي ولن تذر.
السيناريو الأقل سوءاً الذي افترضه راسل، في حينه، هو أن تنجو الصين من تلك الكارثة فيما لو وقعت، في حال استمرت بكين تدير سياستها بالحكمة والحياد اللذين عرفت بهما، وهي سياسة مفادها أن «لا ناقة لها ولا جمل» في المواجهة السوفييتية - الأمريكية.
منذ ذلك الحين جرت مياه كثيرة في البحار والمحيطات، ولن نقول في الأنهار، فالأمر أكبر من ذلك بكثير. انهار الاتحاد السوفييتي في غمضة عين بالمعنى الحقيقي للكلمة، وخسر، في غمضة عين أيضاً، عمقه الجيوسياسي في شرقي أوروربا الذي غدا أطلسياً. لكن خطر المواجهة بين موسكو وواشنطن ومعها حدائقها الخلفية في أوروبا، لم يزل.
يقود الكرملين اليوم رجل هو عدو المدرسة السوفييتية وابنها في الوقت ذاته في واحدة من أغرب المفارقات. ففلاديمير بوتين هو القائل: «من يحلم بإعادة الاتحاد السوفييتي، لا عقل له»، لكنه هو نفسه القائل: «ومن لا يحنّ للاتحاد السوفييتي لا قلب له». وهي عبارة بليغة تلخص في كلمات قليلات رؤية الرجل لموقع روسيا في عالم اليوم، وفي الجوهر فإنه يريد تذكير غرمائه الغربيين، أن موسكو اليوم ستظل قوية مهيبة الجانب كما كانت موسكو الأمس، وأنه لن يتردد في خوض النزال معهم إذا اقتضت الضرورة.
ما لم يفطن له برتراند راسل يومها بالشكل الكافي، هو أن الصين ستجد نفسها محمولة على خوض غمار حرب مع واشنطن، ليس بالضرورة بالأسلحة، وإنما بأدوات التجارة والاقتصاد، وهذا ما نحن شهود عليه، وما من ضمان أن الحروب على الجبهة الاقتصادية لا تتحول إلى حروب بالأسلحة، فما السياسة إلا تعبير مكثف للاقتصاد، وما الحرب إلا تعبير مسلح عن السياسة.
بنى راسل توقّعه من فرضية أن الصين «المحايدة» قد تستفيد من نزاع نووي بين المعسكرين الغربي والشرقي يدمر المعسكرين، فتصبح بكين في وضع يسمح لها بالسيطرة على العالم، لكن ما لم يناقشه بعناية: ماذا لو كانت الصين نفسها هي الطرف الثاني في الحرب مع أمريكا؟.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

كاتب من البحرين من مواليد 1956 عمل في دائرة الثقافية بالشارقة، وهيئة البحرين للثقافة والتراث الوطني. وشغل منصب مدير تحرير عدد من الدوريات الثقافية بينها "الرافد" و"البحرين الثقافية". وأصدر عدة مؤلفات منها: "ترميم الذاكرة" و"خارج السرب" و"الكتابة بحبر أسود".

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"