ليبيا: أزمة حكم أم أزمة وجود؟

04:25 صباحا
قراءة 4 دقائق
عندما تنهار الدولة التي يعتبرونها مرجعهم والمشرف على شؤونهم، يبحث الناس عن وسائل بديلة لحماية أنفسهم من الفوضى العارمة التي تنتشر بعد ضرب الدولة وتعطيل مؤسساتها .لقد شاهدنا هذه السيرورة بأم العين في العراق حين قرر المحتل الأمريكي حل الجيش وقررت حكومة المندوب السامي الأمريكي بريمر فصل كل أعضاء حزب البعث من مؤسسات الدولة ما يعني فصل الدولة نفسها وتفكيكها . وبخلاف الوهم الشائع فإن القرار الأمريكي لم يكن ناجماً عن خطأ في التقدير أو متسرعاً بل مصمم بحيث يسود في العراق ما هو قائم اليوم من تفتيت طائفي واجتماعي وإثني وجهوي ومن فوضى قاتلة وأعمال انتقامية وهجرة قسرية وتهجير مذهبي . وإذ يسود هذا التفتيت يتعذر وجود الحكم العادل وتسيطر على الناس هواجس الخوف المتبادل، وتمتد هذه الهواجس عقوداً طويلة وتصبح هي أساس وجود الناس ويتبخر معها المشترك والمتقارب فضلاً عن الوحدة الاجتماعية المبنية على تجاوز الهويات الجزئية .
وإذا افترضنا أن "إسرائيل" هي المستفيد الأول والأكبر من هذا التفتيت، فإنها هي أيضاً المستفيد الأكبر من التفتيت الليبي ومن الحرب الدامية في سوريا .علماً أن الأضرار الناجمة عن انهيار الدولة في البلدان الثلاثة لا تقتصر عليها وحدها فهي تطال فضاءها ومحيطها المباشر والأبعد كما يلاحظ اليوم في ليبيا التي تحولت في ظل اللا نظام إلى بلد فاشل وعاجز عن التصدي للملاذات الآمنة للمسلحين والإرهابيين والجهاديين عابري الحدود ومتعددي الجنسية .
على الرغم من صعوبات الحكم في سوريا والعراق واليمن، فإن الحال تبدو في ليبيا للوهلة الأولى أصعب بما لا يقاس، فالعاصمة طرابلس تفتقر إلى منطقة خضراء كتلك التي أقامها المحتل الأمريكي منذ سقوط بغداد في ربيع العام ،2003 التي كانت بمثابة دويلة مصغرة يمكن للمعنيين التوجه إليها، الأمر الذي تفتقر إليه طرابلس الغرب لذا تم التعرض بسهولة للدبلوماسيين العرب والأجانب من دون أن تتمكن أجهزة السلطة الشكلية والضعيفة من حمايتهم حتى إنه تم اعتقال رئيس الوزراء الليبي السابق، ولم يتمكن خلفه من تشكيل حكومة، وليس معروفاً بعد أن كان الخلف الثاني سينجح في تشكيل حكومة أم لا، وحيل لوقت طويل دون تصدير النفط وهو ثروة البلاد الوحيدة ومصدر عيشها . وفي السياق جرى التعرض للبرلمان المنتخب وكثيراً ما تسرب المناهضون إلى داخل حرمه وفرضوا رؤاهم على سلطة لم يعد لها من وسائل الحكم شيئاً .
الفوضى الليبية العارمة لا تقتصر فقط على تعذر الحكم وتعذر العمل الدبلوماسي العادي بل تفضي أحياناً كثيرة إلى التوقيفات والسجن الاعتباطي من طرف المسلحين بغض النظر عن تسميتهم نظاميين أو ثوريين مفترضين وتسمح بالاغتيالات السياسية وبالتعدي على أملاك الناس وبالحاق الاذى بالعمالة الأجنبية، هذا إذا أردنا إهمال التقارير التي تتحدث عن هجرة أو تهجير ثلث الشعب الليبي داخل البلاد وخارجها أي مليونين من أصل 6 ملايين وفق الأرقام المتداولة على الشبكة العنكبوتية .
وتتسع الفوضى لتشمل الجوار، فالعناصر الإرهابية لا تحترم الأنظمة والحكومات وبالتالي لا تقيم وزناً للحدود بل تحتفظ باستراتيجية إقليمية وتبحث عن قاعدة خلفية لتنفيذها، لذا نلاحظ قلق المصريين والجزائريين والتونسيين من انعكاس الفوضى على أمنهم واستقرار بلدانهم، ولعل الحديث عن لقاءات يعقدها مسؤولو أمن من البلدان الثلاثة قريباً في القاهرة لبحث هذه المسألة واتخاذ الإجراءات المناسبة يصب في هذا الإطار، ومن غير المستبعد أن يتعامل هؤلاء مع المسلحين بوصفهم خطرًا إقليمياً، يعني ليبيا في الصميم كما يعني البلدان الثلاثة، وبالتالي تنفيذ عمليات عسكرية في مناطق وجودهم كما تفعل الولايات المتحدة في مثل هذه الحالات .
ويبقى الاستعصاء الأكبر في ليبيا ممثلاً في ضعف النفوذ والتأثير الغربي والعربي في الميليشيات العسكرية التي نبتت كالفطر التي تشكلت بعد إطاحة النظام السابق حتى صار من الصعب جمعها أو التوسط فيما بينها وبما أنها تتمركز في نواحٍ وجهات قبلية وعشائرية وتعبر عنها فإنها صارت حاجة أمنية وحامية لمصلحة هذه الجهات ومصدر رهان لكل منها في السيطرة على الحكم أو على الأقل مناطق أوسع، وبخاصة المناطق النفطية . والمرعب في هذا التفتيت هو أن تصفية الألوية المسلحة أو تفكيكها أو القضاء عليها صار يعني تفكيك مصالح ونفوذ القبيلة أو الجهة أو البيئة التي تحتضنها وبما أنه لا جهة قبلية - ميلشياوية شرعية أكثر من غيرها وتملك الحق أكثر من غيرها في فرض نفوذها على الآخرين، فإن حاصل الصراع بين الألوية الميلشياوية هو حاصل الصراع بين المكونات الاجتماعية في هذا البلد الذي توحدت سحابة صيف في مواجهة النظام السابق وعادت من بعد لتواجه بعضها بعضاً حتى الموت أو الفيدرالية أو الانفصال أو أي شيء آخر غير الديمقراطية والتعددية والانتخابات الحرة وتداول السلطة والتعبير الحر إلى غير ذلك من الكليشيهات التي رفعت في سياق المعركة المحلية والأطلسية مع النظام السابق .
تبقى الإشارة إلى أن البرلمان الشكلي الذي يعتبر المظهر الأوحد للشرعية ما بعد القذافي الذي ينطوي على غلبة الإخوان المسلمين وبعض الليبراليين يتوهم النافذون فيه أن بوسعهم السيطرة على مسارات ووسائل تشكل السلطة في هذا البلد، فإذا بهم يؤجلون الانتخابات لكي تتم في وقت يعودون فيه إلى البرلمان ويشكلون حكومتهم ويستفردون بالسلطة . . هذا الوهم الفظيع من جراء عمى سياسي مذهل هو المسؤول إلى حد كبير عن سيادة الميليشيات والمافيات في هذا البلد، وهو المسؤول عن إطاحة المشتركات بين الليبيين في حدها الأدنى، وهو أيضاً المسؤول عن استعصاء الحكم وربما إطاحة بلد كان يشكو من نظامه، فإذا به اليوم يشكو من وجوده بل ينقلب على أسباب وجوده ويفتح شهية المفترسين لالتهامه .

فيصل جلول

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"