الوجه الآخر للرئيس الفرنسي

04:52 صباحا
قراءة 4 دقائق
ما كاد الفرنسيون يعودون من عطلتهم السنوية حتى استقبلهم كتاب الأسرار "الزوجية" المنشورة على الملا لفاليري تريولفيلار خليلة الرئيس فرانسوا هولاند تسع 9 سنوات متواصلة وسيدة الإليزيه الأولى التي طلقها بجملة في سطر واحد تناقلته وكالات الأنباء المحلية والعالمية بطريقة مهينة وخلف في نفسها جرحاً عميقاً على جرح عميق فكان انتقام فاليري مدوياً بل يفوق في دويه الإهانة .
كان يمكن لهذا الكتاب أن ينحصر في زاوية ثانوية في الحياة السياسية الفرنسية فالطلاق في الإقليم الباريسي يتجاوز سنويا معدل ال50 في المئة من عقود الزواج وبالتالي يمكن القول إن نصف الأسر الباريسية مطلقة أو منقسمة، وإن قصصاً كثيرة كالتي روتها سيدة الإليزيه السابقة تتناسب تماماً مع أجواء الطلاق والخيانة الزوجية في هذا البلد . وكان يمكن لهذا الكتاب ألا يثير الضجة التي أثارها لأن جميع سكان الإليزيه كانت لديهم قصص من هذا النوع حتى صار بوسعنا التأكيد بأن الخيانة الزوجية ومهنة الرئيس في باريس وجهان لعملة واحدة . ألم تشكُ زوجة فاليري جيسكار ديستان من مطاردة زوجها للممثلات الشهيرات؟ ألم يكشف فرانسوا ميتران قبيل وفاته النقاب عن ابنة راشدة من معاشرة ظلت طي الكتمان أكثر من 18 عاماً؟ ألم ترو زوجة الرئيس شيراك أن زوجها يهوى النساء وأنها تعرف ذلك؟ ألم ترفس سيسيليا ساركوزي قصر الإليزيه بعد أقل من خمسة اشهر على رئاسة نيكولا ساركوزي للجمهورية بسبب خياناته المتكررة؟ كان يمكن إذن لهذا الكتاب أن يكون سيرة خيانة زوجية محصورة وعابرة تثير هواة التلصص أو الصحافة الاجتماعية المسلية وأن ينتهي اثره بعد حين، لكن الراجح أنه يحفر عميقاً في نفوس الفرنسيين وفي وقت قياسي حيث أكد أكثر من 37 في المئة منهم أن ماورد في الكتاب غيّر رأيهم عن الرئيس باتجاه سلبي .
أسباب عديدة حولت هذا الكتاب إلى ظاهرة خطرة أبرزها شجاعة فاليري واصرارها على الانتقام ليس بالفضيحة وإنما بالمعلومة الموثقة، فهي صحفية معروفة في فرنسا وتصرفت في الإليزيه و"كأنني أجري تحقيقاً صحفياً" على حد تعبيرها . والسبب الثاني هو أنها تكشف الوجه الآخر لرئيس الجمهورية الاشتراكي الذي لا يحب الفقراء و لا "رفقتهم" ولا يحب "السلام على المعاقين وذوي الاحتياجات الخاصة" بل ويسخر منهم بوصفهم "بلا أضراس" والمقصود بذلك الناس الذي لم تسمح ظروفهم المعيشية بزرع أضراس في فمهم نظراً لكلفتها المرتفعة . بالمقابل يميل الرئيس إلى حياة الأغنياء فهو الذي يملك أضراساً قاطعة لايأكل إلا اللحوم الطازجة جداً وليس المخصصة للبيع في اكياس بلاستيك في المخازن الكبرى ولا يأكل إلا بطاطا الأغنياء المعروفة باسم "نوار موتييه" والواردة من المنطقة التي تحمل الاسم نفسه وهي متخصصة في زراعة هذا النوع الفاخر من البطاطا في منطقة رملية أرضها مالحة إلى حد ما ويباع الكلغ الواحد منها بسعر متوسط 10يورو . وتقول السيدة الأولى السابقة إنها دعت هولاند إلى منزل أهلها وسخر من أصولهم المتواضعة وتقول إنه بارد الأحاسيس وأحياناً بلا شفقة وقاس وأناني لا يفكر إلا بمهنته وأنه يكذب دائماً ويفتقر الى الشجاعة وينهار لدى انتشار استطلاعات الرأي العام عن تدني شعبيته ويبحث دائماً عن كبش محرقة وأحياناً يفقد الصلة بالواقع، وتروي أنه كان أحياناً يسخر منها ويطلب أن تهتم بنفسها بحيث تكون جميلة "فقط لا غير" .
وتذهب فاليري بعيداً في الرد على إهانتها فتروي أنه بعد الانفصال ظل هولاند يراسلها ويتغزل بها ويعتذر منها وأنه أحياناً كان يرسل لها 29 رسالة نصية في يوم واحد ويعدها بأن يربح ثقتها فتعلق قائلة "تصرف معي وكأنه يخوض انتخابات ويصرّ على ربحها" .
ما من شك في أن هولاند ما كان يحتاج الى هذه اللطمة القوية وهو الذي وعد الفرنسيين بأن تكون حياته الخاصة مكتومة ومختلفة عن حال سلفه ساركوزي، وما كان يحتاج إليها في وقت بانت فيه أرقام البطالة المرتفعة والقياسية وهو الذي وعد بخفض حجم العاطلين عن العمل وزيادة النمو الاقتصادي، فإذا بالأرقام الاقتصادية تفصح عن صفر نمو، ناهيك عن ركاكة الأداء الحكومي وعن هبوط أسهم الرئيس إلى ما قبل الحضيض بقليل .
ولعل النفاق الأكبر في هذه الظاهرة يكمن ليس فقط في احتقار الفقراء الذين يدعي الرئيس الدفاع عنهم والنطق باسمهم فهو أيضاً بدا محدود التأثير في الأزمات العالمية وتميزت مواقفه بخفة ملحوظة خصوصاً في حرب غزة الأخيرة التي اصطف فيها إلى جانب نتنياهو ومنع تظاهرات احتجاجية ضد الحرب قبل أن يعود للسماح بها بعد حين، وشن حرباً على مالي للقضاء على "القاعدة" التي عادت إلى مواقعها السابقة بعيد انتهاء الحرب واستخدم دون تحفظ أفعال المبالغة والتضخيم في الأزمة السورية والعراقية إلى حد أنه زعم ذات يوم أنه سيخوض منفردا الحرب في سوريا إذا ما تراجعت واشنطن فإذا به يتراجع بعد تراجع باراك أوباما وكذا الأمر في أوكرانيا والملف النووي الإيراني .
وسط هذه الأجواء القاتمة جاء كتاب فاليري تريولفيلار ليطلق رصاصة الرحمة على رئيس بدا في صور تلفزيونية وحيداً في قمة الأطلسي الأخيرة وكأن أحداً لا يكلمه أو يهتم به وازداد الحديث عن وجوب تراجعه والتخلي عن خياراته السياسية واستراتيجيته في الحكم أو استقالته أو العودة إلى صناديق الاقتراع لانتخاب جمعية وطنية جديدة وتشكيل حكومة جديدة أو أي خيار آخر من هذا القبيل، وإن لم يفعل فقد يؤدي انخفاض شعبيته إلى ما دون ال10 في المئة إلى نزول الناس إلى الشوارع والمطالبة بإسقاط الرئيس الذي صار "بلا أضراس" سياسية واقتصادية خلال أقل من ثلاث سنوات في حكم دولة غربية رئيسية .


فيصل جلول

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"