الهجرة والفساد

04:07 صباحا
قراءة 3 دقائق
عبدالله السويجي

كان العالم العربي في سبعينات وثمانينات القرن الماضي يعاني هجرة الأدمغة العربية بسبب عدم استيعابها وافتقار الدول لمراكز الدراسات والبحوث، وعدم تقدير العلماء وأصحاب الاختصاص والمواهب، وتلقّفت دول كثيرة هذه الظاهرة فمنحت المهاجرين من أصحاب الأدمغة امتيازات، ووفرت لهم الظروف المناسبة للقيام بأعمالهم وبحوثهم.

ومنذ عشر سنوات برزت ظاهرة هجرة الشباب العربي حتى أصبحت أزمة تهدد القوة الشبابية العاملة. ولأهمية هاتين الهجرتين عبّر صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس الدولة، رئيس مجلس الوزراء، حاكم دبي، رعاه الله، عن ألمه لهذه الظاهرة من خلال تغريدة نُشرت في السادس من هذا الشهر، بمناسبة ظهور نتائج استطلاع قامت بها مؤسسة «بي سي دبليو» في 17 دولة، وأظهرت أن نصف الشباب العربي يفكّر في الهجرة. وجاء في الاستطلاع أن 77% من الشباب العربي يعتقدون بوجود فساد حكومي في بلدانهم، و87% قلقون بشأن البطالة في بلدانهم. وغرد صاحب السمو قائلاً: «إذا فسدت الحكومات خربت البلاد وقلّ أمنها وتركها أهلها، وكل مسؤول سيكون مسؤولاً أمام الله». وهي عبارة تلخّص المشهد برمته؛ لأن المؤسسة الرسمية المنوطة بها محاربة الفساد تحولت إلى مرتع للفساد، ما سينقل هذا السلوك القبيح إلى الشعوب، وعندها يغيب القانون وتعم الفوضى وتتراجع المشاريع كماً ونوعاً.

منذ أكثر من عشر سنوات، وتحديداً بعد انطلاق ما سُمي ب«الربيع العربي» الذي تحول إلى خريف عربي، وفكرة الهجرة تداعب عقول الشباب الذين تعرّضت دولهم ومجتمعاتهم للدمار، وقد وقعت الهجرة بالفعل وشملت مئات الآلاف من الشباب وغير الشباب، بشكل شرعي أو غير شرعي، حتى أن كثيرين دفعوا أرواحهم ثمناً لها، فابتلعتهم أمواج المحيطات والبحار ولم يصلوا إلى بر الأمان. وأعتقد جازماً أنه لو لم يندلع «الربيع العربي» لأقبل الشباب العربي أيضاً على الهجرة، وإن ليس بالأعداد نفسها. فالدول التي شهدت هذا «الربيع» كانت تعيش خريفاً تنموياً في معظم مناحي الحياة، خاصة في فرص العمل والتأمينات الاجتماعية والصحية والتعليم، والبنية التحتية، يُضاف إليها الفساد المستشري والشللية والمحسوبية والأنظمة الاستبدادية التي حوّلت المواطن إلى عدد جامد مظلوم مكسور مهزوم بلا أفق عملي أو اجتماعي أو علمي.

إن هذه المكونات لعبت دوراً في الاحتجاجات التي خرجت مطالبة بتحقيق العدل الاجتماعي وخلق فرص العمل، وتحوّلت إلى مطالبات بقلب الأنظمة حين سُرقت وجُيّرت لصالح الجماعات المتطرفة، وعلى رأسهم تنظيم «الإخوان» المسلمين الذي فرّخ «داعش» وجماعة النصرة وغيرها من التنظيمات التي تدعي الجهاد، بينما قامت بتخريب المجتمعات والمتاجرة بها وإعادتها إلى العصور الوسطى، ولا زالت تلك الدول تعاني تبعات التطرف والإرهاب الذي ألصقوه ظلماً بالدين الإسلامي.

وفي الوقت الذي كانت فيه الدول المستهدفة بالهجرة تنتقد وتحارب هجرة الناس، إلا أنها فرحت بوجودهم على أراضيها وساعدتهم وعائلاتهم للتأقلم، ولم يكن الكبار هم الهدف وإنما الشباب والأطفال، الشريحة القابلة للذوبان في المجتمعات، وكانت فرصة لتلك الدول التي تعاني تراجعاً في النمو السكاني أن تغذي مجتمعاتها بعناصر جديدة. وعلينا أن نفهم في السياق ذاته أن تلك الدول لم تكن السبب في هجرة الشباب والأسر العربية، وإنما حكوماتهم التي تلكأت في التنمية وعاثت في الأرض فساداً.

في المقابل لا نعثر على هذه الظاهرة في الإمارات أو أي دولة خليجية، ليس بسبب ثراء هذه الدول؛ بل لأن حكوماتها سعت إلى بناء دول حديثة محكومة بالقانون، ووفرت لمواطنيها سبل العيش الكريم، والاستطلاع المشار إليه سابقاً أشار إلى أن الإمارات هي البلد المفضل للعيش ل46% من الشباب العربي، لما حققته من رفاهية لشعوبها من المواطنين والمقيمين، وقد أطلقت الدولة برامج لاستقطاب الأدمغة العربية العلمية والأدبية والفنية وشرعت في تنفيذها من خلال الإقامات الذهبية، ولاحقاً من خلال تعديل بعض مواد القانون الخاص بمنح الجنسية.

الهجرة قضية سهلة في نظر البعض، لكنها تشكل أزمة حضارية وفكرية وإدارية تعيشها دول عربية كثيرة، وهي خسارة لثروة لا تُقدّر بثمن، فالمهاجر بعد عشرين سنة سيجد أفراد أسرته غرباء عنه، وهنا تبدأ التحديات.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"