«الانفجار العثماني»

03:16 صباحا
قراءة 3 دقائق
محمد نورالدين

انفجر العثمانيون الجدد في تركيا هذا الأسبوع، بما لم يسبق له مثيل منذ وصول جماعة حزب العدالة والتنمية إلى السلطة عام 2020.
و«العثمانية الجديدة» لم تعد مجرد عنوان لخطط مخفية، بل بات أصحابها يجاهرون بها، ويدعون بفخر إلى إحيائها، واستعادتها.
وتتسارع الخطوات حثيثة عشية الذكرى المئوية لتوقيع معاهدة لوزان عام 1923 التي رسمت، إلى حد كبير، حدود تركيا الجديدة والحالية، فيما تعتبرها جماعة حزب العدالة والتنمية، وفي رأسها رجب طيب أردوغان، هزيمة لتركيا، لأنها تخلت عن الحدود التي كان رسمها لتركيا الميثاق الملّي عام 1920.
وإذا كانت خطوة إعادة اعتبار كنيسة آيا صوفيا مسجداً، هي الحدث الرئيسي في المشهد العثماني في الأيام الأخيرة، فإنها ترافقت مع عدد من الخطوات والمواقف التي ظهرت، وستظهر تدريجياً، تصب كلها في نهر العثمانية الجديدة، المتدفق بأقصى طاقته.
علت هذا الأسبوع الدعوة لإحياء الخلافة الإسلامية (أي الخلافة العثمانية). وهاجم السلطان سليم الأول عامي 1516 و1517 كلاً من بلاد الشام، ومصر، وتوسعت الانكشارية تدريجياً، إلى شمال إفريقيا، والجزيرة العربية. وكان من أبرز أهداف الغزو العثماني حينها، اكتساب الشرعية الدينية من خلال فرض التنازل على الخليفة العباسي، وتجييرها للسلطان العثماني، وقد حصل العثمانيون على هذا المطلب. ولم يكن ذلك إيماناً، ولا جهاداً. فالجهاد لا يكون ضد المسلمين الآخرين. وليس أدل على عدم الإيمان هو أن أحداً من السلاطين- الخلفاء العثمانيين لم يؤد مناسك الحج. فهل يعقل أن أحداً من هؤلاء، الذي لم تكن تتسع صفحة بكاملها لذكر ألقابه التي تسبق اسمه، لم يذهب إلى الحج على امتداد أربعمئة سنة وسنتين بالكمال، والتمام؟
في عام 1924 ألغى مصطفى كمال (أتاتورك) منصب الخلافة، وسقطت الوصاية التركية المعنوية عن المسلمين. وفي مطلع الأسبوع الحالي، كانت مجلة «الحياة الحقيقية» المقربة من حزب العدالة والتنمية تنشر عدداً خصصت غلافه للدعوة إلى الاستعداد لإعلان الخلافة الإسلامية، متسائلة: «إذا لم يكن اليوم فمتى، وإذا لم تكن أنت فمن سيكون؟»، مزينة غلافها بعبارتين بأحرف كبيرة هما: لا إله إلا الله محمد رسول الله.
تفتّش جماعة حزب العدالة والتنمية عن كل ما يمت إلى أتاتورك بِصلة، لكي تعمل على محوه، سواء كان إيجابياً، أم سلبياً. فهم يرفضون معاهدة لوزان، وهم ألغوا قراره تحويل آيا صوفيا إلى متحف، وأوقفوا مطار أتاتورك الدولي في إسطنبول، وبنوا مطاراً بديلاً في مكان آخر من المدينة، وهدموا مركز أتاتورك الثقافي في قلب ساحة تقسيم في إسطنبول، وبنوا جامعاً كبيراً بمآذن ضخمة في الساحة نفسها، بجانب نصب العلمانية وحرب التحرير الوطنية، بحيث لا يكاد يُرى النصب. وفي الطرف الشمال الغربي من الساحة تتهيأ جماعة العدالة والتنمية لإعادة بناء ثكنة المدفع العثمانية الكبيرة التي كانت سابقاً في حديقة جيزي التي تسبب الشروع في قطع أشجارها بانتفاضة جيزي عام 2013.
وأدلى بلال أردوغان، ابن رئيس الجمهورية، بدلوه عندما اعتبر تغيير الأبجدية عام 1928 لا لزوم له، لأن تغيير الأبجدية ليس شرطاً للتقدم. وهو لا شك كلام محق، لكنه لم يقصد به إلا باطل، وهو كسر كل ما يمت من تدابير اتخذها أتاتورك، ليس رفضاً لتغيير الحرف، بل لمراكمة تحطيم أتاتورك، تمهيداً لتحضير الصورة البديلة، أي صورة العثماني الجديد التي يختزلها ويرمز إليها رجب طيب أردوغان.
ولم تكن الدعوة إلى إحياء الخلافة لتمر لو كان النظام التركي علمانياً ومدنياً بالفعل. فالقانون وحده لا يكفي، والعلمانية لم تعد سوى شبح في ظل معارضة عاجزة، ومنقسمة.
ولو اقتصر نطاق أمر الدعوة لإحياء الخلافة على حدود تركيا لقلنا «ما لهم ومالنا». لكن المطروح يشمل كل العالم الإسلامي، ولا سيما العالم العربي. حيث نجد أن التدخلات التركية تحصل في دول عربية فقط، من سوريا، والعراق، وليبيا، والخليج، وتونس، وغيرها. وهو ناقوس يقرع في إسطنبول، (هناك من يدعو في السياق العثماني، لنقل العاصمة إليها)، بأمل أن تعود من جديد «باباً عالياً»، يسمع صوته في بلاد العرب. فهل من يدرك الخطر الانكشاري القادم على صهوة الثأر، والأوهام؟

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

باحث ومؤرخ متخصص في الشؤون التركية .. أستاذ التاريخ واللغة التركية في كلية الآداب بالجامعة اللبنانية.. له أكثر من 20 مؤلفاً وعدد من الأبحاث والمقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"