مصداقية تحت الصفر

02:53 صباحا
قراءة 4 دقائق
فيصل جلول
تزامن حدثان الأسبوع الماضي في وجهة واحدة. الأول وقع في لندن، إذ كشفت إحدى الصحف البريطانية النقاب عن جلسة خاصة، جمعت «شاي مازوت»، المستشار السياسي في السفارة «الإسرائيلية» في العاصمة البريطانية، والضابط في الجيش «الإسرائيلي»، مع ماريا ستريزولو مساعدة وزير التربية روبيرهالفون، و«روبن»، وهو صحفي متنكر شارك في الجلسة التي تمت في أحد اشهر مطاعم لندن بوصفه صديقاً ل«إسرائيل»، وتمكن من نصب كمين بكاميرا خفية للدبلوماسي الصهيوني الذي خاطب المسؤولة البريطانية بالقول «نريد إسقاط السيد دوناكان» وهو مساعد وزير الخارجية البريطاني الذي صرح مؤخراً بالقول إن المستوطنات الصهيونية هي لوثة قبيحة على الخريطة العالمية.
ردت ستريلوزو بالقول «يمكننا أن نفتعل له فضيحة يسقط بواسطتها. لا يوجد مسؤول بلا قضايا شخصية يمكن النيل منه بواسطتها»، بالمقابل أظهر «مازوت» عدم اكتراث بوزير الخارجية بوريس جونسون الذي وصفه ب«الغبي وغير المسؤول»، في وقت دافعت فيه رئيسة الوزراء تيريزا ماي عن الكيان الصهيوني بمواجهة وزير الخارجية الأمريكي جون كيري الذي وصف حكومة نتنياهو بأنها الأكثر يمينية وتطرفاً في تاريخ «إسرائيل». لم يعجب هذا الكلام السيدة ماي التي قالت إنه من غير الجائز انتقاد حكومة صديقة لبلد حليف.
لا نعرف بعد رد فعل رئيسة الوزراء «الموقرة» على هذا التدخل السافر في شؤون بلادها، مع ترجيحنا أن تتم لفلفة هذه القضية، ما دامت «إسرائيل»، بلداً «حليفاً وصديقاً»، على حد تعبيرها.
الحدث الثاني يتصل بعملية القدس الأخيرة التي قاد خلالها فلسطيني مظلوم شاحنة باتجاه تجمع للجنود «الإسرائيليين» في القدس المحتلة، فقتل أربعة، منهم وجرح أكثر من 15 آخرين قبل أن يستشهد برصاص جنود «إسرائيليين». ما أن وقعت العملية الاستشهادية حتى وضعها نتنياهو في إطار العمليات التي يشنها «داعش» في أوروبا والشرق الأوسط، معتبراً أن منفذها ينتمي إلى «داعش»، وأنها تندرج في سياق عمليات مماثلة وقعت في نيس في فرنسا وبرلين في ألمانيا، وأن معركة «إسرائيل» والدول الأخرى واحدة بمواجهة الإرهاب.
هذا التصنيف يطرح مشكلة لا يبدو أن الدول الأوروبية تريد أخذها في الاعتبار، مضمونها أن الصراع بين «إسرائيل» والفلسطينيين، لا يدور من أجل إقامة خلافة عابرة للدول والقارات كما يزعم «داعش»، وإنما من أجل إقامة الدولة الوطنية الفلسطينية على الأرض الفلسطينية المحتلة، وتحت سلطة القانون الدولي. وثانيها أن الشهيد فادي القنبر لم يترك خلفه إعلاناً بالانتماء إلى «داعش» الذي لم يتبن بدوره هذه العملية، وأن كل تنسيب للشهيد الفلسطيني إلى «داعش» لا قيمة له ولا يعتد به. وثالثها أن الشهيد ينتمي إلى مجموعة تعرضت للتعذيب والإهانة في السجون «الإسرائيلية»، وأن دافعه الأساسي هو القضاء على الاحتلال. ورابعها أن هذا النوع من العمليات ليس جديداً، فقد سبق لفلسطينيين أن قاموا بعمليات دهس لصهاينة في أوقات مختلفة خلال الأعوام الخمسة الماضية، وبالتالي فإن عملية القنبر ليست الأولى، ولم تتم على خطى «داعش» وغيره من المنظمات الإرهابية التي تحظى بدعم «إسرائيل» وتأييدها، وخامسها أن العملية لم تستهدف مدنيين، بل عسكريين يحتلون القدس والأراضي الفلسطينية المسلوبة.
وتعكس إدانة الدول الغربية لعملية القدس قدراً من التناقض الفاضح مع المبادئ المعلنة، والقيود الأخلاقية التي تعتمدها هذه الدول. إنهم يعتبرون الأراضي الفلسطينية محتلة، لكنهم يرفضون حق أهلها في المقاومة ضد الجيش المحتل، هذا إذا افترضنا أن المدني ليس محتلًا في مستوطنة تعتبر غير شرعية في عرف الغربيين أنفسهم. كما تعكس محاباة «إسرائيل» التي تعتدي بدبلوماسيتها على حكومة مستقلة، قدراً كبيراً من النفاق الذي يخفي قناعة راسخة بأن «إسرائيل» هي امتداد للغرب، وأن كل فصل بينها وبين الغربيين هو فعل عبثي لا قيمة له، بل يمكن وصفه بالساذج والمغفل.
هل يدرك الغربيون معنى، وأثر انحيازهم للكيان الصهيوني في العالم العربي؟ عندما يتضح عملياً على الأرض أمام الرأي العام العربي، أن رئيسة الحكومة البريطانية تزايد دفاعاً عن التطرف الصهيوني في الوقت نفسه الذي تنتهك فيه «إسرائيل» سيادتها، ويعامل وزراؤها معاملة وزراء جمهوريات الموز، فإنه سيتساءل بالضرورة عن التداخل بين الصهيونية وبريطانيا، واندماج مصالح لا ينفع معه اقتراح دور الوسيط في النزاع مع هذه الحكومة، أو من يمثلها، لأنها ببساطة طرف لا يؤتمن على نصرة قضية عادلة.
وعندما يحابي قادة دول غربية الصهاينة في احتلالهم، ويتيحون لهم الوقت تلو الآخر، ويغطون استيطانهم، انتهاكاتهم المتواصلة للقانون الدولي، فلا يجوز لهم من بعد طرح السؤال عن ردود فعل الفلسطينيين العنيفة التي تتخذ شكل عمليات استشهادية، هنا وهناك.
كيف يمكن لعربي أو لفلسطيني بصورة خاصة، أن يصدق دول الغرب التي تدعي تمسكها بالشرعية الدولية عندما تنتهك هذه الدول بواسطة حليفتها «تل أبيب» هذه الشرعية، وتتعاطى معها كأنها غير موجودة، ومن ثم يبرر الغربيون أنفسهم الموقف «الإسرائيلي».
في لندن والقدس، نشهد مرة أخرى بعد آلاف المرات على ازدواج معايير الدول الغربية في تعاطيها مع القانون الدولي. لا يمكن للغرب أن يطالب العرب والفلسطينيين باحترام الشرعية والقوانين الدولية فيما هو ينتهكها جهاراً، بالمقابل لا يمكن للفلسطيني الذي يرى بأم العين سرقة أرضه وانتهاك حقوقه أن يواصل الرهان على حل غربي للاحتلال الصهيوني.. لأن كل رهان على غير المقاومة لا يعول عليه.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"