«تعاشيق» جهاد هديب

04:18 صباحا
قراءة دقيقتين
يوسف أبو لوز

يحضر جهاد هديب في غيابه شاعراً محباً كبيراً للحياة، ومحباً ﻷصدقائه وللشعر وللكتابة ولكل ما له صلة قربى بالجمال الذي يسويه يومياً من الكلام والضحك المنسحب إلى داخله.
يضحك جهاد هديب إلى داخله، ولا مرة واحدة سمعناه يضحك بصوت مرتفع أو يتكلم بصوت مرتفع، ﻻ بل هو قليل الكلام، وكثير الإصغاء، صامت نقي. أقرب إلى التقشف، وأقرب إلى الشعر، لا بل هو في قلب الشعر، وفي قلب الحياة التي لم يأخذ منها إلا القليل من العمر.
أمضي في «النيروز» ساعة اتلفت حولي. هذا موعده في الثانية عشرة ظهراً. لا يأتي. وكان يأتي وﻻ يأتي. ساعة أخرى في «السنترال»، وأخرى في مقهى «حذوة الحصان» يأتي ولا يأتي. لعله في الجامعة الآن ليكمل «الماجستير» بامتياز. ويشرب القهوة على الرصيف، محدقاً في أشجار السرو، وعلى وشك قصيدة.
في العام 1996 يصدر مجموعته الشعرية الأولى «تعاشيق». أقرأ المخطوطة وأكتب.. من أين جاء كل هذا الصمت في شعره، من أين جاءت إليه كل هذه القناعة في اللغة؟ مع أن الحياة مملوءة بالأصوات والكلام وبالصور أيضاً، وهو يعرف ذلك. ومن هذه المعرفة بالذات، يزهد، ويغسل أيامه بالشعر، نحو سفر طويل في «تعاشيقه» المستعادة دائماً بنبل الكائن وفروسيته الخصوصية.
سافر جهاد هديب سفراً طويلاً، وكان دائماً قليل الحقائب، وقليل الثياب. عصامي حد النرجس. تعلم الإنجليزية بعد الثلاثين. أخذته هذه اللغة الحيوية إلى شعر العالم الذي يتلاءم وشعريته المملوءة بالصمت، وفي القليل من مدن العالم كان يقرأ شعره وهو واقف مثل عمود الرخام. تمثال من رخام جهاد هديب، وأنت الآن تبحث عن التمثال النائم.. وأين هذا الرخام البارد الآن تحت التراب؟.. أبحث عنه في شارع السلط، وفي المكتبات التي تبيع الشعر الذي يتحدث عن الحب والوطن والمنفى.
لم يتح له أن يعود إلى فلسطين، فوشمها على ذراعه، وشمها على ذراعه بالطول، كما هي فلسطين مرسومة بالطول على ذراع البحر الأبيض المتوسط. فلسطيني طيب، ولكي يحمي نفسه من المنفى، راح ليحتمي بالشعر.
في «تعاشيق» يقول: «تلك الصخرة العجوز../.. التي أرضعته منذ ألف مصب../.. لم تحفل لبكائها الينابيع..».
يهدي مجموعته الشعرية الأولى «تعاشيق» إلى أخته فاطمة.. «..أختي فاطمة.. أختي.. أم البدايات، عروس نبع أولى، تخضر بين أصابعها الأناشيد..».
شاعر ينابيع أو شاعر غيوم، وإذ أبحث عنه هنا وهناك، فلا أجده. أذهب إلى شعره. جهاد هديب حي في شعره. شعر قليل، ويكتفي بخفة اللغة. لا إنشائيات ولا رغوة في الكلام.. فقط.. «.. ها هو الليل، علق نجومه على الأعواد» كما يقول.
عندما أخذت نجوم جهاد هديب تحيط به كي تتوجه هلالاً صغيراً على الليل.. رحل بكل جسده الذي تحول إلى ما يشبه القلم.
تمثال رخام بيده قلم يكتب شعراً قليل اللغة، وقليل الكلام.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"