بولتون وما بعده

04:50 صباحا
قراءة 3 دقائق

د.خليل حسين *

لم يكن خروج جون بولتون المدوِّي من البيت الأبيض أمراً استثنائياً أو مفاجئاً، قليل من التدقيق يوضح ألا أحد في إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب يستبعد من الإبعاد، فسبق لهذا الأخير أن أقال العشرات من أصحاب المراكز الوازنة في إدارته، وغالباً دون أسباب موجبة لذلك.
وعلى الرغم من هذه الظاهرة الشائعة في سلوك الرئيس ترامب، فإن إقالة بولتون لها خلفيات وأبعاد متعددة تبدأ بسلسلة القضايا الخلافية التي نشبت بين الاثنين حول كثير من الملفات الدولية الحساسة، ولا تنتهي أيضاً بالكيمياء الشخصية بينهما وبين أطراف أخرى في طليعتها وزير الخارجية مايك بومبيو.
فالرئيس ومستشاره يتشاركان بقوة تجاه احتضان «إسرائيل» وقضاياها الإستراتيجية، إلا أنهما اختلفا في الوسائل التفصيلية لتنفيذ ذلك في كثير من المحطات. فعلى سبيل المثال لطالما انتهج بولتون مساراً باتجاه استعمال القوة العسكرية في ما يتعلق بالموضوع الإيراني ومختلف تفاصيل ملف برنامجها النووي، وعلى الرغم من إقدام ترامب على الانسحاب من الاتفاق النووي، فإنه لم يجار سياسات بولتون الذي سعى بقوة إلى جانب «إسرائيل» إلى توجيه ضربات عسكرية قاسمة وفضَّل ولوج طرق الضغوط الاقتصادية لجر طهران إلى طاولة مفاوضات مفتوحة القضايا، وبالنتيجة التوصل إلى اتفاقات مناسبة وملائمة لاستراتيجيات «إسرائيل»، وثمة من يجزم بأن بولتون كان وراء كثير من الوقائع التي كادت أن تدخل واشنطن في مواجهات عسكرية مفتوحة مع طهران، ومن بينها التوتر الشديد الذي ظهر مؤخراً في الخليج.
والأمر لا يختلف كثيراً في الجانب المتعلق بالملف الكوري الشمالي، فبولتون ظهر بصورة أكثر تشدداً في معالجة البرنامج النووي والصواريخ الباليستية الكورية الشمالية، حتى إن هذا الأخير لم يخف امتعاضه واستياءه من المسارات التي اتبعها ترامب إزاء هذا الملف وخاصة اللقاء مع الرئيس الكوري جونج أون، على حدود الكوريتين الذي اعتبره بولتون تنازلاً أمريكياً فجاً في إطار علاقات أمريكا الدولية وهيبتها المفترضة.
وعلى الرغم من تشدد الاثنين تجاه القضايا الأمريكية من منطلق مبدأ «أمريكا أولاً»، وكره الاثنين للبيئات السياسية الدولية المتعددة، كمنظمة التجارة الدولية، والأمم المتحدة، وغيرها، فإن بولتون اعتبر حلف الأطلسي مثلاً من الأحلاف التي يجب دعمها بقوة، باعتباره نداً ملائماً لمواجهة روسيا، الأمر الذي ظهر جلياً بدفع بولتون باتجاه الانسحاب من معاهدة الصواريخ المتوسطة المدى الذي أقدم عليه ترامب؛ بل لم يكتف بهذه المواجهات؛ بل عمل على نسج علاقات قوية مع دول كانت سابقاً في حضن الاتحاد السوفييتي كأوكرانيا وبولندا اللتين زارهما بدافع التحريض على موسكو.
وفي السياق نفسه تعامل مع الأزمة الفنزويلية وقضايا أمريكا اللاتينية بالشدة نفسها، فعمل على التدخل حتى العسكري في فنزويلا، وثمة من يقول إنه كان وراء محاولة الانقلاب الفاشلة ضد الرئيس نيكولاس مادورو لإخراجه من السلطة في الوقت الذي كان فيه الرئيس ترامب يتساءل عن الجدوى الاستراتيجية للتدخل الأمريكي في فنزويلا، علاوة على تشجيعه لمواجهة الصين وتخطي الحروب التجارية إلى نطاقات أوسع إذا اقتضى الأمر.
على إي حال من الأحول، اتضح للرئيس ترامب أن ثمة بعض الجوانب التي يمكن الاستفادة من بولتون، وقد تمكن منذ ذلك خلال سبعة عشر شهراً من المساكنة السياسية بينهما، إلا أنه في المقابل يبدو أن بولتون بات يشكل عبئاً ثقيلاً على الرئيس ترامب في المرحلة المقبلة، خاصة مع اقتراب حملته الانتخابية لولاية رئاسية ثانية، وهذا ما يعززه الهامش الواسع في تحرك وزير الخارجية مايك بومبيو مستقبلاً، والذي سيتعزز موقعه ودوره إلى جانب ترامب ويعتبر المستفيد الأول من إقالة بولتون.
في المحصلة، ربما سيرتاح الاثنان من بعضهما بعضاً، وستسمح هذه الإقالة لكثير من الوقائع والمتغيرات بالحدوث، من بينها إعادة ترسيم المسارات السياسية لاحقاً مع إيران وكوريا الشمالية، وروسيا وأفغانستان وغيرها من القضايا التي نسج خيوطها جون بولتون كمستشار للأمن القومي، أو في غيرها من المواقع التي شغلها.

* رئيس قسم العلاقات الدولية والدبلوماسية في الجامعة اللبنانية

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دكتوراه دولة في القانون الدولي .. رئيس قسم العلاقات الدولية والدبلوماسية في الجامعة اللبنانية واستاذ القانون الدولي والدبلوماسي فيها .. له أكثر من 40 مؤلفاً ومئات المقالات والدراسات البحثية

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"