العروبة.. الجامع والحامي

03:20 صباحا
قراءة 4 دقائق
حسن العديني

الصورة الطافية في المشهد العربي هي حروب دامية وطاحنة في بعض الأقطار، ومراشقات بالكلام يمكن أن تتطور إلى قتال في أقطار ثانية، لم يُستثنَ من هذا الشعبُ الرازح تحت الاحتلال، المعرض كل يوم للإبادة والاجتثاث؛ فبعيداً عن صخب الشعارات والصواريخ الطائشة تبدو حركة «حماس» لينة القلب مع «إسرائيل»، شديدة الحقد على الفصائل والسلطة والشعب الفلسطيني.
متى بدأت هذه العاصفة العاتية؟
الإجابة السهلة تضع الإصبع عند العام 2011، وهي إجابة تنطوي على خفة، فالعواصف لا تهب فجأة وإنما تسبقها رياح وغبار، والبراكين لا تقذف حممها إلا بعد نذير من البخار والدخان والنار، وكانت النذر ظاهرة في الأجواء العربية، فقد شهدت الدول التي اجتاحتها العواصف في العقود السابقة هبات غضب تصدت لها السلطات بالقمع أو راوغتها بالتنفيس، وكما أن للظواهر الطبيعية عوامل كامنة في الطبيعة؛ فإن للظواهر السياسية أسباباً لها صلة بالسياسة، بمعنى أن الممارسة السياسية ولدت الغضب الذي تحول إلى هيجان.
لقد انحرفت الأنظمة الحاكمة بوظيفة الدولة إلى غير ما نشأت من أجله، فاختل ميزان العدل، وتأرجح ميزان التنمية، ولزم احتكار السلطة إغلاق منافذ التعبير والبطش بالمعارضين وترويع الناس. في البداية خرج الناس للتعبير عن السخط على الأنظمة والمطالبة برحيل رموزها، وهي قاومت إلى مدد متباينة، لكن مثلما انحرفت الأنظمة بوظيفة الدولة انحرفت قوى بذاتها بفكرة الثورة، وحولتها إلى احتراب أهلي، ثم إلى محاولة لتحطيم الدولة.
لا أهمية لتكرار الحديث عن مؤامرة أدارتها أجهزة استخبارية أجنبية وظفت فيها جماعات «الإخوان المسلمين» والتنظيمات الإرهابية المنبثقة عنها، الأهم هو الموقف المعادي لهذه الجماعة من الوطنية والقومية، وسواء كان موقفاً أصيلاً لمؤسسيها ومنظريها الأوائل أو أنه أملي عليها من الأجهزة التي اخترقتها أو ساهمت في تأسيسها، فإن النتيجة لا تختلف، وهي العداء الحاد للوطنية والقومية باعتبارهما من مواريث الجاهلية، وكان صوتها صارخاً في تجريم القومية على وجه التحديد، وهنا أوردهما معاً من قناعة راسخة بأنه لا تصادم مطلقاً بين الوطنية والقومية.
إن جذور المشكلة الحالية تمتد إلى بداية انحسار المد القومي، وإخلاء مساحة واسعة في الفضاء العربي لهذا التيار بوجوهه ومسمياته العديدة، وربما أبانت الأحداث والتحديات الراهنة لقادة الدول وللسياسيين والكتاب والمهتمين بالشأن العام أن العروبة حصن تحتمي به الدولة الوطنية حتى لا نجد أنفسنا أمام خياري تشظي الدولة الوطنية أو إعادة فهم علاقة الوطنية بالقومية، وتصور صيغ مختلفة للتنسيق أو التعاون على طريق الوحدة التي لا تذيب الدولة القُطْرية.
الحقيقة الساطعة أن الأمة العربية وجود حضاري نشأ عبر تطور تاريخي، ولم تكن في أي وقت اختراع مفكر أو شطحة زعيم، ولست أدري إن كان «الإخوان المسلمون» على غير علم بأن الدولة العربية الواحدة قامت في فجر الإسلام قبل أن تتحول إلى إمبراطورية في عهد بني أمية الذين كانوا شديدي الاعتداد بالعروبة، فيما بعد نخر سوس الشعوبية في الدولة العربية عندما زاد اعتماد العباسيين على العنصر الأجنبي، وهم من البداية اعتمدوا على الفرس في إسقاط الأمويين، ثم جرت مياه كثيرة في ذلك النهر التاريخي الطويل حتى أقام العثمانيون إمبراطورية إسلامية شملت معظم بلاد العرب، وكانت هذه في واقع أمرها إمبراطورية استعمارية مارست أبشع صنوف الاستبداد والاستغلال والنهب حتى انهارت في أعقاب الحرب العالمية الثانية، فاقتسمت فرنسا وبريطانيا، العراق والشام فوق مستعمراتهما القديمة في بلاد المغرب العربي، ومصر والسودان وعدن والخليج العربي، بينما سبق لإيطاليا احتلال ليبيا في 1911.
في مرحلة الاستعمار الحديث بزغ الفكر القومي، ونشأت أحزاب قُطْرية ذات توجه عروبي في سوريا والعراق، ثم جاء الحزبان القوميان «البعث» و«حركة القوميين العرب»، وجاء جمال عبد الناصر بزعامته الملهمة وبإنجازاته ومقارعته الاستعمار وتوجهاته الاجتماعية، ليعزز مبدأ الانتماء العربي في وجدان الجماهير، وتحت الراية القومية اندلعت الثورات التي طردت المحتلين من الديار العربية. لكن الاستعمار كان قد زرع «إسرائيل» في قلب الوطن العربي في مرحلة سابقة على المد القومي الجارف، واستطاع بعده أن يستخدمها لإيقاف ذلك المد بعدوانه الغادر في 1967.
ثم نشأت ظروف واستجدت متغيرات كثيرة في العالم العربي وفي المحيط الدولي، فقد العرب عبد الناصر، وخسروا حليفهم الاستراتيجي الاتحاد السوفييتي، وشن الاستعمار بأدواته المحلية حملة ضارية على العروبة والاشتراكية ورموزهما، صاحب عملية غسل أدمغة الأجيال دعم «الإخوان» حتى حان وقت وظيفتهم الجديدة بتدمير الدولة الوطنية.
من هنا بالذات يتوجب إحياء الفكر القومي، وإعادة بناء المؤسسات القومية، والتوجه نحو أشكال من التعاون بين الدول العربية، خصوصاً في المجال الاقتصادي والثقافي والعلمي، ومن المهم ابتداع رؤى فكرية تجعل في الوحدة القومية في مداها البعيد حامياً وحارساً للدولة الوطنية، ويمكن استلهام فكرة استقلال الولايات في إطار الدولة الواحدة، كما سادت في مطلع وصدر الإسلام مع استبعاد هيمنة المركز، على أن تحتفظ كل دولة بنظامها السياسي، وحتى بتوجهاتها الاجتماعية.
إن تجربة الإمارات العربية المتحدة قابلة للتعميم إذا أراد العرب وقرروا، ذلك ضروري للحفاظ على الدولة الوطنية من وباء «الإخوان» ووبال التقسيم.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"