العرب والصين.. فرص التعاون في عالم متسارع

04:02 صباحا
قراءة 4 دقائق
د. إدريس لكريني

أسهمت التحولات الكبرى التي شهدتها الساحة الدولية في أعقاب انهيار الاتحاد السوفييتي والمعسكر الشرقي ونهاية الحرب الباردة، في تبوؤ الولايات المتحدة الأمريكية لمكانة ريادة النظام الدولي، بعدما سعت إلى توظيف حالة الفراغ الاستراتيجي التي خلفتها هذه المتغيرات لصالحها، مستثمرة في ذلك الكثير من المقومات التي لم تجتمع لغيرها من القوى الدولية الكبرى، بعد مرور ما يربو على النصف قرن من الاستقطاب الثنائي والصراع الإيديولوجي الذي زجّ بالعالم في الكثير من الأزمات والنزاعات العسكرية والاقتصادية والسياسية المكلفة..
تضاربت مواقف وآراء الباحثين والمختصين بشأن حقيقة النظام الذي روّجت له الولايات المتحدة، ومدى اكتمال معالمه، بين اتجاه ينكر وجود هذا النظام بالمرّة، وبين مُقر بوجوده، فيما برز رأي ثالث حاول التوفيق بين الرأيين السابقين، واعتبر أن الأمر مجرد تحولات تعبر عن نظام دولي يتشكّل وما زال في مراحله الأولى.
إن تكريس القطبية الأحادية في هذه المرحلة من تاريخ العلاقات الدولية أسهمت فيها الكثير من العوامل، في ارتباطها بتوجّه الولايات المتحدة إلى فرض زعامتها من جانب واحد؛ كما أن القوى الدولية الكبرى التي كانت مرشحة لكي تلعب أدواراً طلائعية بعد الحرب الباردة، لم تعبّر عن أي توجه واضح وفاعل في هذا الخصوص.
ثمّة الكثير من المؤشرات التي تبرز أن شعارات النظام الدولي الذي بشّرت بها الولايات المتحدة منذ أكثر من عقدين ونصف، لم تتحقق بعد، وما زال الكثير من دول المنطقة العربية تتفاعل بشكل سلبي مع هذا الواقع الدولي؛ فلا هي ربحت رهان التنمية والممارسة الديمقراطية، أو كسبت رهان التكتل الذي أضحى ضرورة ملحة في عالم تزايدت فيه التحديات والمخاطر..
وفي خضم هذه التحولات، برزت الصين كقوة دولية وازنة، تمكنت على امتداد العقود الثلاثة الأخيرة من تحقيق التنمية وتعزيز وضعها الاقتصادي وانفتاحها على محيطها المتغير بصورة سلسة. فهي تسير بخطى ثابتة ومتدرّجة لترسيخ حضورها الوازن على الصعيد الدولي، وغالباً ما تتخذ مواقف دوليّة مهادنة وغير صدامية، إزاء العديد من القضايا الإقليمية والدولية، كما هو الشأن بالنسبة لمكافحة الإرهاب وقضايا الطاقة ومشاكل الحد من انتشار الأسلحة النووية، والتلوث البيئي والأزمات الاقتصادية والمالية الدوليين.. وبمواقفها داخل مجلس الأمن..
ويبدو أن هناك إقراراً من القوى الدولية الكبرى كالولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي بأهمية الصين كفاعل دولي وازن ومؤثّر، وبضرورة دمجها في النظام الدولي الراهن بقضاياه ومؤسساته..
إن الظروف التي تمر بها المنطقة العربية منذ تسعينات القرن الماضي وما يرافقها من تحديات أمنية وسياسية واقتصادية مختلفة؛، وتهافت إقليمي ودولي؛، كلّها عوامل تحيل إلى ضرورة وأهمية تنويع الشركاء، بما يضمن تحقيق قدر من التوازن على هذا المستوى، والاستفادة من الشراكات الاقتصادية والاستراتيجية التي يمكن أن تتمخّض عن ذلك..
تعود العلاقات العربية - الصينية إلى زمن بعيد؛، بفعل التواصل الحضاري والثقافي الذي حصل بين الطرفين، وهو ما تعكسه الرحلات الاستكشافية التي قادها بعض الصينيين إلى المنطقة قبل الميلاد. ولعب التجّار العرب والمسلمون دوراً كبيراً في تعزيز هذه العلاقات من خلال نقل الثقافة العربية الإسلامية إلى الصين ونقل مثيلتها الصينية إلى المنطقة العربية، فيما شهدت هذه العلاقات أيضاً بعض التّوتر والمواجهة في بعض محطاتها التاريخية..
كما شكّلت المنطقة العربية بوابة لانفتاح الصين على الجزء الغربي من القارة الآسيوية؛، ونحو أوروبا، بما جعل الحضارتين تسهمان بشكل ملحوظ معاً في تطوّر الحضارة الإنسانية جمعاء.
ومنذ منتصف القرن العشرين، شهدت هذه العلاقات بعض التطور، بعدما سارعت الكثير من الدول العربية خلال فترة الحرب الباردة إلى الاعتراف بالصين الشعبية بعد ثورة 1949 ودعم حكومتها باعتبارها ممثلة شرعية وحيدة للصين داخل الأمم المتحدة، رغم الرّفض الذي قابلت به الكثير من الدول الغربية هذه الثورة ونتائجها.. وفي الوقت نفسه، حرصت الصّين على دعم القضية الفلسطينية، وتأييد استقلال عدد من الدول العربية من داخل الأمم المتحدة والتنظيمات الإقليمية الأخرى كحركة عدم الانحياز..
تمتلك دول المنطقة العربية إمكانات ومقومات استراتيجية تسمح لها ببناء علاقات أكثر عمقاً وندّية مع الطرف الصيني، وخصوصاً إذا ما تم استثمارها بصورة جيدة.. ويمكن الاستفادة من الدور الصيني الدولي المتزايد في خدمة القضايا العربية..
قبل أسابيع وعلى امتداد يومين، شاركت ضمن أشغال الندوة الدولية حول «العلاقات العربية - الصينية»، التي نظّمها مركز دراسات الوحدة العربية (لبنان) ومعهد دراسات الشرق الأوسط التابع لجامعة «شانغهاي» للدراسات الدولية (الصين)، إلى جانب عدد من الباحثين والخبراء العرب والصينيين المنحدرين من 15 دولة.. وقد شكلت الندوة فرصة لتبادل الآراء بين الحاضرين بصدد مختلف القضايا المشتركة بين الطرفين، وكذا الوقوف على مجمل تصورات الصين للأوضاع العربية ورصد مواقفها تجاه قضايا المنطقة والأولويات المشتركة..
أبرز المتدخلون أهمية الحضور القوي الذي أصبحت تستأثر به الصين في عالم اليوم، انطلاقاً من إنجازاتها الاقتصادية والتنموية، وتموقعها الوازن داخل مختلف المؤسسات الدولية كمجلس الأمن، بما خوّلها لعب أدوار متزايدة في النظام الدولي الراهن. وأشاروا إلى التطور الحاصل في العلاقات بين الجانبين على مختلف الصعد، وللدور الذي يمكن أن تلعبه الصين على مستوى خدمة قضايا المنطقة، وعلى رأسها القضية الفلسطينية ودعم الاستقرار في سوريا.. ومكافحة الإرهاب الذي أصبح يهدد السلام العالمي برمته..
كما تمّ التأكيد على ضرورة استثمار الجوانب الثقافية والحضارية والتاريخية لتعزيز الشراكات وتشبيك المصالح بين الجانبين خدمة لقضايا مشتركة، وفي تعزيز السلم والاستقرار الإقليميين والدوليين.. وتمّ التنويه أيضاً بأهمية اللقاءات الفكرية والعلمية التي من شأنها تقديم توصيات وخلاصات كفيلة بتطوير هذه العلاقات وإعطائها بعداً عميقاً، مبنياً على تبادل المصالح وتعزيز الشراكات الاقتصادية والاستراتيجية بين الجانبين.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

​باحث أكاديمي من المغرب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"