مصير الغرب يتحدد هذه الأيام

03:24 صباحا
قراءة 4 دقائق
جميل مطر

شيء ما تغير في تصرفات أنجيلا ميركل، بعد إعلان نتائج الانتخابات البرلمانية الأخيرة في ألمانيا. أتعبت، أم بدأ يتخلى عنها شعبها، أم أصابتها إصابة مباشرة إحدى قذائف الكراهية والعداء التي دأب الرئيس ترامب على إطلاقها على من لا يحب في أوروبا، وما أكثرهم؟ لم يخف ترامب يوماً كرهه للمشروع الأوروبي، ثم بالغ في إظهار هذا الكره في تصريح أخير له قال فيه إن الاتحاد الأوروبي أقيم ليستغل الأوروبيون الولايات المتحدة. ولما كانت ميركل في نظره صمام أمان هذا الاتحاد ركز الرئيس الأمريكي حقده عليها منذ أيام حملته الانتخابية، ثم في أول زيارة قامت بها المستشارة الألمانية للولايات المتحدة بعد توليه السلطة.
لم يخطئ ترامب في حكمه على ميركل، ودورها في أوروبا. ميركل أنقذت دولاً في جنوب أوروبا لم تتحمل ضغط الأزمة المالية العالمية حين تدخلت بالقروض، والترويج لقواعد التقشف، والإصرار على وحدة وسلامة منطقة اليورو. ميركل ساعدت أكثر من مليون مهاجر على المكوث في أوروبا، خاصة في ألمانيا. وفي سبيل ذلك، ونتيجة له دفعت ثمناً سياسياً غالياً.
يمكن القول من دون تردد كبير، إن ترامب وحملاته الشعبوية في معظم دول أوروبا مدعوماً باختراقات روسية وصينية واضحة وعلنية، تسبب بخسارة كبيرة لألمانيا.
ألمانيا خرجت من آخر معارك ميركل الداخلية، والأوروبية أيضاً، أضعف، وأقل ثقة بنفسها. بدا هذا الوضع حقيقة لا تخفى في نتائج الانتخابات التي خاضتها ميركل، وفي الجلسة الماراثونية لرؤساء دول الاتحاد الأوروبي في مقر المفوضية في بروكسل، وهي الجلسة التي خرجت منها ميركل مكسورة الجناح.
نعيد إلى الذاكرة، وبسرعة، المواقف والسياسات الأمريكية التي تبناها، أو جهر بها الرئيس ترامب، وأحدث بها شرخاً بعد آخر في البنيان الغربي، هذا البنيان الذي هيمن على نشأة نظام دولي ومنظومة تجسده وحافظت عليه سبعين عاماً، أو أكثر. نذكر بانسحاب أمريكا من اتفاق باريس للمناخ، ثم رفضها الاستمرار في تنفيذ الاتفاق متعدد الأطراف الخاص بالأنشطة النووية الإيرانية، وخروجها عن الإجماع الدولي حول مدينة القدس.
نضيف إلى ما سبق، شكوى دول أوروبية من دعم أمريكي معلن للتيارات المتطرفة التي صارت تهدد استقرار «النظام القائم» في دول أوروبية، وفي أوروبا كمنظومة دول متجانسة. كان شرخاً غير هين ذاك الذي تسببت به سياسات أمريكية فضلت التعامل مع حكومات «رجال أقوياء»، على التعامل مع حكومات اعتنقت الليبرالية مذهباً من مذاهب الديمقراطية الغربية. عدد كبير من القادة الأوروبيين لن يغفروا لأمريكا، قائد الغرب وحامية حمى عقيدته السياسية، أنها سمحت لدول معادية، ودول نامية صاعدة باستخدام الديمقراطية معولاً لهدم الليبرالية. تشوهت صورة، بل وحقيقة الديمقراطية في ظل قيادة ترامب للغرب.
يجب أن نعترف بأن السياسات الأمريكية في عهد ترامب، وأغلبها متناقض مع بعضه بعضاً، أحدثت تغييرات حقيقية، قد يثبت خلال الشهور المقبلة أنها تغييرات جوهرية في مجمل العلاقات الدولية، وعلى وجه الخصوص في ما يتعلق بعلاقات دول الغرب ببعضها بعضاً. الرجل الذي يعيب على أسلافه إنفاقهم على جنود في الخارج أرسل جنوداً أكثر من الذين أرسلهم الأسلاف. الرجل الذي انتقد سياسات الديمقراطيين في الشرق الأوسط، أفسد الأحوال في سوريا لجهل إدارته، وانعدام خبرته الشخصية. الرجل الذي وعد بحل سريع للصراع العربي - «الإسرائيلي» أشعل أحقاداً جديدة بنقله السفارة للقدس، وباعتماده على أفكار وأحلام لم تجد فرصتها لتنضج، وربما أساءت إلى حلفائه في المنطقة. وعد بحل صراع فإذا به يسعى مع بعض الهواة لصنع شبكة من الصراعات الجديدة تنشغل بها شعوب الشرق الأوسط وتنسى الصراع الباقي أبداً.
كثير مما حدث، ويحدث في العالم على يد الرئيس ترامب، سوف يكون من الصعب، أو المستحيل على خلفائه تصويبه، أو تحسينه. لا نستطيع من موقعنا هنا، ومن متابعتنا لأنشطته ومواقفه خلال عام ونصف العام، التنبؤ بما سيفعل مع الرئيس بوتين في اجتماعهما في مدينة هلسنكي بعد أقل من عشرة أيام. نتوقع طبعاً تصريحات تبرئ الرئيس بوتين من تهمة التدخل في السياسة الداخلية لدول الغرب، وحربه ضد الديمقراطية. نتوقع أن نراه سعيداً باشتراكهما في كره الاتحاد الأوروبي، وغيوراً من الحدود المفتوحة لنفوذ وسيطرة الرئيس في النظام السياسي الروسي. هؤلاء، بوتين وتشي وكيم، هم في رأيه، وبعين الحسد والغيرة «ملوك» في دولهم، حيث لا معارضة تقيدهم، أو حرية رأي وصحافة «بذيئة وزائفة» تزعجهم.
في هذا السياق العالمي غير العادي، لا بد أن تحدث أشياء غير عادية. ممكن أن يحدث مثلاً أن الصين تستمر، ومن دون هوادة، في توسيع وتعميق نفوذها استعداداً لتتبوأ موقعها المناسب في عام 2050. حلم الصين، وهو حلم الرئيس تشي، إطلاق مرحلة عولمة جديدة ولكن بصفات صينية. هناك في أمريكا من يعرف قيمة السياق الراهن، ويتصور أن تستطيع الولايات المتحدة ببعض الجهد إقامة سلم أمريكي جديد يقوم على أساس شبكة من التحالفات «الشعبوية» المعقدة. الحديث في هذا التصور يطول.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دبلوماسي مصري سابق وكاتب متخصص بقضايا العلاقات الدولية. اشترك في تأسيس مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بمؤسسة الأهرام. وأنشأ في القاهرة المركز العربي لبحوث التنمية والمستقبل. عضو في مجلس تحرير جريدة الشروق المصرية ومشرف على صفحة الرأي

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"