“إخوان” ليبيا . . من “الربيع” إلى كابوس الحرب الأهلية

02:57 صباحا
قراءة 4 دقائق
فيصل جلول
هل كان العقيد الراحل معمر القذافي يدعم القبلية والجهوية في بلاده عندما رفع شعاره الشهير "من تحزب خان"؟ وهل كان يعتقد جاداً أن استثناء الحزبية من الحياة السياسية من شأنه أن يخلق دولة الجماهير التي تذوب فيها الانتماءات المحلية وتتفتت لصالح تكوين اجتماعي عريض عابر للمكونات الليبية ومرصوص البنيان خلف "الزعيم القائد"؟
لن نعرف الجواب من القذافي نفسه، فهو كان يستخدم في خطبه وأحاديثه لغة مدججة بالإيديولوجيا التي تنشر الضباب أكثر مما تكشف . لكننا سنعرف بعد اغتياله أنه منع الحزبية وهي صيغة اندماجية لمكونات اجتماعية مختلفة حول مشروع واحد يحمي هذه المكونات، بل يجعلها منفردة في حل مشاكلها، عبر بناها الخاصة وعلاقتها بالمحيط الأقرب والمحيطات الأبعد . وسنعرف أيضاً أن "دولة الجماهير" لا تبنيها الشعارات الايديولوجية، وأن شرط قيامها يكمن في تفتيت البنى السابقة عليها، وهو ما لم يأته نظام العقيد الراحل أبداً بل أتى عكسه، وبالتالي فإن ما كان يبدو في وسائل الإعلام وكأنه الجماهير، ليست سوى تجمعات قبلية وإثنية وجهوية متجاورة تلعب دور الجماهير لساعات عدة وتعود إلى سيرتها التقليدية فور انتهاء المناسبة .
وسنعرف أيضاً بعد اغتيال القذافي أن نظامه خلق انقسامات بين سكان المدن وسكان الأرياف، ليضعف مقاومة المدن لسياسته ويضعها في حالة دفاعية في مواجهة ريفها، وهو ما نراه جلياً اليوم في تكوين الميليشيات والتجمعات المسلحة التي تتكاثر كالفطر، وتسعى كل منها لتحقيق مصالح فئوية، وتسعى جميعها لمقاومة المشاريع المركزية .
ما من شك في أن نظام القذافي كان قبل سقوطه قد دخل في طريق مسدود على كل صعيد . فقد شاخت شعاراته وتناقضت مع عصرها، وبهت موقعه في محيطيه العربي والإفريقي، وصار بحاجة إلى تمويل مستمعيه وجمهوره، كما فعل عندما استدعى 500 سيدة من إيطاليا لشرح نظرية الطريق الثالث في كتابه الأخضر، علماً أن هذا الطريق أصيب بضربة قاصمة بعد انهيار الحرب الباردة، حيث ما عاد العالم يسير في طريقين شيوعي وليبرالي يبرران طريقاً ثالثاً، ولو من الناحية الافتراضية .
وعلى الرغم من شيخوخة النظام وشعاراته، فقد احتاج سقوطه إلى أشهر طويلة من التدخل العسكري الأطلسي، ليتبين أنه يستند إلى تحالفات قبلية وجهوية متماسكة دافعت عن نفسها حتى الرمق الأخير بمواجهة ائتلافات قبلية أخرى كانت متضررة من نظامه . في هذه السيرورة نشأ تحالف ثلاثي بين الإخوان المسلمين وقبائل مصراتة و"أنصار الشريعة"، فضلاً عن تكوينات إسلامية أخرى هنا وهناك، وبدا أن "الربيع العربي" قد رسا في ليبيا على قوة مركزية قبلية +الإخوان، وأن على جميع التكوينات الأخرى أن تتراتب حول القوة الجديدة، خصوصاً أنها كانت امتداداً للنظامين المصري والتونسي المحاذيين لليبيا واللذين خضعا للإخوان المسلمين، بيد أن سقوط "الإخوان" في مصر، وانحسارهم التكتيكي في تونس، سينعكس سلباً على ليبيا، وسيفتح الباب واسعاً أمام صراع جديد على السلطة بين التكوينات القبلية والجهوية والإيديولوجية، وستتدخل أطراف خارجية في هذا النزاع الذي يهدد وحدة البلاد وبقاءها .
يفصح الهجوم الأخير الذي شنته قوات "فجر ليبيا" على ما بات يعرف باسم الهلال النفطي بين راس الأنوف والسدر والبريقة، رداً على التقدم الذي تحرزه قوات اللواء المتقاعد خليفة حفتر في بنغازي، يفصح عن سقوط البلاد في حرب أهلية طويلة الأمد، وعن تحول الدولة فيها إلى دولة فاشلة قد يصل فشلها إلى حد العجز عن تصدير ما يكفي من النفط لدفع رواتب الموظفين .
والرهان على هلال النفط من كلا الطرفين، هو رهان على احتكار الثروة الوحيدة في البلاد، وبالتالي الإمساك بها لفرض شروط المنتصر على الآخرين، وإخضاعهم عبر التحكم بوسائل حياتهم اليومية . بكلام آخر يمكن القول إن سيطرة "فجر ليبيا" على الهلال النفطي تعني في العمق سيطرة مصراتة، و"الإخوان" على عصب السلطة في البلاد، في حين تبدو سيطرة اللواء خليفة حفتر على هذا الهلال بمثابة سيطرة قبائل الزنتان والليبراليين عليها، ومعهما في الحالتين قوى ورهانات خارجية، ومن الطبيعي أن يؤدي احتدام الصراع إلى تراجع فرص التسوية، وهيمنة نزعات الاستتباع والقهر وإلى تطويل أمد الحرب الأهلية .
وإذا كانت الحرب الأهلية الليبية سيئة ومدمرة للثروة والمجتمع في ليبيا، فإنها تنطوي على مخاطر مستجدة، أبرزها تحول بعض المناطق الليبية إلى محميات ل"داعش" وللتيارات المتطرقة الأخرى، ومن اللافت في هذا الصدد أن يعلن أبو بكر البغدادي قبول انضمام ولاية ليبيا الإسلامية إلى "خلافته"، وتفيد معلومات متطابقة من مدينة درنة التي يسيطر عليها "أنصار الشريعة" أنها باتت تضم معسكرات لتدريب جنود من "داعش"، وإن صح ذلك، فإن دولة البغدادي باتت تملك هامشاً أوسع للمناورة في شمال إفريقيا، وبالتالي صار القضاء عليها أصعب من ذي قبل، الأمر الذي يعزز فرص الليبراليين وقبائل الزنتان وأنصار النظام الليبي السابق في الحصول على دعم إقليمي ودولي في حربهم ضد خصومهم المشار إليهم أعلاه .
ثمة من يعتقد أن قسماً كبيراً من الليبيين بات يطمح للعودة إلى الوراء، ويعتبر أن "الربيع العربي" الذي حل في ليبيا هو في حقيقته ربيع "الإخوان المسلمين" الذين فشلوا، ليس فقط في إشاعة الديمقراطية والحرية وصيانة حقوق الناس، وإنما أيضاً في الحفاظ على وحدة البلدان التي تسلموا زمام الأمور فيها . . وها هم اليوم يلقون بالملامة على خصومهم في ليبيا وعلى الأطراف الخارجية، وكان العالم بأسره يجب أن يكرس طاقته لخدمتهم وترسيخ سلطتهم .
بعد فشلهم في مصر واليمن وتحالفهم مع "النصرة" و"داعش" في سوريا، وانحسارهم التكتيكي الذكي والسلمي في تونس، ينخرط إخوان "الربيع الليبي" في حرب أهلية طويلة الأمد مفتوحة على كل المخاطر من انهيار الدولة إلى انهيار البلد برمته . إن ربيعاً من هذه الطبيعة كان من الأجدر تفاديه، أو هذا على الأقل ما ينطق به القسم الأكبر من الليبيين بصوت خافت .
التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"