لن تتعب هذه الأمة من محاولة النهوض

03:14 صباحا
قراءة 3 دقائق
د. علي محمد فخرو

يوماً بعد يوم تنجح القوى الخارجية، المتآمرة دوماً على الوطن العربي، والقوى الداخلية، الرافضة دوماً لكل إصلاح حقيقي قد يمس مصالحها وامتيازاتها ونفوذها، في إفشال كل حراك جماهيري عربي يحاول إخراج وطنه من أوضاع الاستبداد السياسي، والاستباحة الاقتصادية، والارتهان لإرادة الخارج، والإندماج المذهل في مساوئ النظام العولمي النيوليبرالي المتوحش.
ما يميز ذلك المشهد هو الإصرار على جعله مشهد صراعات وخلافات ما بين أنظمة حكم عربية، أو تقييمه على أنه نجاح باهر لهذا النظام، أو إخفاق مخجل لذاك النظام.
يغيب الجانب الأهم في ذلك المشهد، وهو جانب إرادة ومصالح وأحلام المجتمعات، والشعوب، احتقاراً لها من قبل البعض، وإدخالاً في اليأس والدعة والمذلة من قبل البعض الآخر. ما يوجع ويؤلم هو أن تلك الشعوب والمجتمعات هي التي تدفع الثمن الباهظ، دماراً في مدنها، وغياباً متعمداً لخدماتها الاجتماعية، من مثل التعليم والصحة والنقل والعمل، وتهجيراً مخططاً لملايينها إلى الملاجئ والتسول في الشوارع، والاضطرار لبيع الجسد، والانغماس في كل أنواع الرذيلة.
وبحرقة قلب وشعور بالعجز يشاهد الناس يومياً مناظر الأطفال، والنساء، والعجزة، وهم يبكون ويولولون في الشوارع، وفي الملاجئ البائسة القذرة، المذلة لآدمية الإنسان. وبقدرة قادر تبقى الامتيازات السابقة كما كانت، ويبقى الفساد السابق منتشراً ومتجذّراً، وتبقى الشمس مشرقة على البعض، بينما الظلام الدَّاكن المرعب يلف أغلبية المواطنين التائهين على وجوههم بين نيران الجحيم الذي يعيشونه ليل نهار.
من قبل كان الادعاء الكاذب أن الحراكات فيها عنف يهدد الأمن الداخلي، وبالتالي لا بد من مواجهتها بالبطش والسجون، وتضييق الحريات، وإصدار أشكال لا حصر لها ولا ّعد من القوانين الجائرة. لكن حراكات الشهور القليلة الماضية الكبيرة المسالمة القانونية إلى أبعد الحدود، فضحت المستور وراء أقنعة الخارج، والداخل .
كل وسائل الخداع، والتسويف، والتلاعب بالوقت، والاتهامات الملفقة، والوعود المسكنة المخدرة غير الصادقة، جميعها استعملت، وأعيد طرحها كاستجابة واعدة وضرورية لمطالب الملايين المسالمين المغدورين في كل جانب من حياتهم المعيشية.
كان الأمل أن تتعلم النخب العربية، ومن يقف وراءها، من المآسي الجنونية التي غطت بعض أجزاء الوطن العربي في السنوات العشر الأخيرة، وأحالت الوطن العربي إلى خراب، ويباب تنعق فيه الغربان، وأن تصحو المؤسسات الإقليمية العربية المشتركة من سباتها، وكسلها، وقلة حيلتها، لكنها جميعاً لم تتعلم، ولم يصحُ ضميرها الجمعي بعد، وبقيت تمارس شعار: عليّ وعلى أعدائي، وليحترق الجميع.
ويستطيع من يريد أن يصف ما قلناه بأنه بكائية من بكائيات أمة العرب. لكن الإحن والمحن التي تعيشها الأمة العربية يجب أن توصف كما هي، فلعل مناظر الشياطين وهم يبتسمون تحرك ساكناً في الجهة الوحيدة المؤمل منها شيئاً: جهة المجتمعات المدنية العربية، وعلى الأخص شبابها.
هؤلاء يجب أن يعوا أن كل ممارسات العلاقات العامة المظهرية التي تمارسها بعض الجهات، بخبث وتمويه، وأن كل الدفع الممنهج لانغماس شباب وشابات الأمة في الثقافة العولمية الاستهلاكية الفردية المسطحة الكارهة لكل التزام وطني وقومي وإنساني، وأن الهوس البليد بسخافات المنافسات وتقليعات الغناء المبتذل وانبهارات وسائل التواصل الاجتماعية المتغيرة يومياً.. أن جميع ذلك لن يكون طريقاً حاسماً ومؤكداً لإخراج أوطانهم من الجحيم الذي تعيشه، ولاستجابة قوى الامتيازات الداخلية والخارجية للمطالب العادلة التي رفعوها، ويرفعونها.
كل ذلك لن يجفف الدموع، ولن يوقف إراقة الدماء، ولن يمنع تدمير المدن، ولن يؤخر التوجه السريع لإعطاء الاستخبارات شرعية اتخاذ القرارات الكبرى.
ما قلناه، ونعيد قوله إنه لا حل إلا بقيام كتلة متناسقة متعاونة متعاضدة من قوى المجتمعات المدنية العربية الحية النشطة المعبرة عن ضمير الأمة، لمواجهة الانحدار الخطر الذي تتوجه إليه الأمة، إذ لن يستطيع أحد أن ينجو من الطوفان الهائج الذي يخطّط لهذه الأمة.
عندما بدأت حراكات وثورات ما يسمى «الربيع العربي»، وتعثر الكثير منها، قلنا إن الثورات لها منطقها في الفشل والنجاح، في الصعود والهبوط. خروج الملايين من الشعب العربي للمطالبة بالحرية والكرامة والعدالة يؤكد أن الشعوب العربية لن تتوقف بعد الآن عن تغيير أوضاعها ، مهما كانت الآلام والتضحيات. هذه الحقيقة يجب أن تقنع الكثير من الجهات الخارجية والداخلية بألا تراهن على عامل الوقت، وعلى الضعف الذي سيدب في هذه الأمة التي ستنهض، طال الزمن أم قصر.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

شغل منصب وزير الصحة ووزير التربية والتعليم سابقاً في البحرين. متخصص في كتابة مقالات في شؤون الصحة والتربية والسياسة والثقافة. وترأس في بداية الألفين مجلس أمناء مركز البحرين للدراسات والبحوث. كما أنه عضو لعدد من المنظمات والمؤسسات الفكرية العربية من بينها جائزة الصحافة العربية المكتوبة والمرئية في دبي

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"