هشاشة الثقافة المدنية

06:12 صباحا
قراءة دقيقتين
د. حسن مدن

العبارة التي في العنوان أوردها الدكتور أحمد زايد، وهو يناقش في أحد كتبه تناقضات الحداثة في العالم العربي. لا ينفي الدكتور زايد، ولا أحد آخر من الباحثين سواه، ينفي أن مظاهر الحداثة تحيط بنا، إذا ما حكمنا على ظاهر الأمور، فنحن نتعامل مع تقنيات ووسائل اتصال فائقة التطور والتقدم، وندير تفاصيل حياتنا اليومية بمنجزات الحداثة، التي لولاها لبقينا في المكان نفسه الذي كان فيه آباؤنا وأجدادنا.
لقد أخذنا من الحداثة شكل العمران ونظام المرور ووسائل النقل وتلاه وسائل الاتصال الرقمية، ودخلت الحداثة في بنية التشريعات والقوانين، لكن هل يعني هذا، بصورة أوتوماتيكية، أننا أصبحنا في لجة الحداثة أو على أقل تقدير بتنا إليها أقرب مما كنا قبل قرن مثلاً، حينما بدأت الحداثة تدقّ علينا الأبواب، لا في صورها المادية فحسب، وإنما في الثقافة والفكر وشكل الحكم، حيث كانت عندنا مرحلة وصفها غسان سلامة ب «البرهة الليبرالية»، وهي ليبرالية فعلاً، لكنها مجرد برهة سرعان ما تبددت وزالت.
واقع الحال يشير إلى النقيض تماماً. الأرجح أننا كنا أقرب إلى الحداثة يومذاك مما نحن عليه اليوم، حيث نعيش حالاً يصفها الدكتور زايد نفسه ب «القلدنة» ويعني بها النكوص إلى الوراء، بغية تقليد الماضي والبحث عن أجوبة فيه على أسئلة الحاضر، ظناً منا أن الحداثة لا تناسبنا.
وفي هذا نحن ازدواجيون. نريد من الحداثة مظاهرها وما تيّسره من سهولة في المعيش، ولكننا نرفض فكرة الحداثة وفلسفتها، وفي هذا بالذات حدثت القطيعة التي ما زلنا أسرى لها، وربما نظل كذلك لفترة قادمة طويلة إن لم نحسم أمر تجاوز هذه الازدواجية، ازدواجية التماهي مع مظاهر الحداثة بما فيها الأكثر استهلاكية وزيفاً، ورفض جوهر الحداثة، من حيث كونها رؤية وفكرة.
نجحت حداثة الغرب لأنه أسس لها بداية بالفكر والعلم، وجعل منها قاعدة لمناهج التعليم والتفكير، قبل أن ينشغل بمظاهرها، لذلك لم تنشأ الحداثة في الفراغ، وإنما بنيت على مداميك فكرية وتربوية وفلسفية راسخة، جديرة بأن تصحح أي انحراف محتمل، فيما «حداثتنا» اكتفت باستيراد المظاهر من الخارج، ومحاولة التماهي، الهش أيضاً، معها، ونأت بنفسها، ما استطاعت، عن الحداثة نفسها كفكرة ومنهج حياة.
أسوأ من ذلك تسعى منظومات الحكم، ما أمكنها، توظيف بنية الماضي وإعادة تشغيلها لإعاقة التحديث المنشود، ومنع مؤسسات المجتمع المدني، التي هي إحدى ثمرات الحداثة، من أن تكون شريكاً في صنع الحداثة، مفضلة الاستعانة بالقوى التقليدية عضيداً وسنداً.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

كاتب من البحرين من مواليد 1956 عمل في دائرة الثقافية بالشارقة، وهيئة البحرين للثقافة والتراث الوطني. وشغل منصب مدير تحرير عدد من الدوريات الثقافية بينها "الرافد" و"البحرين الثقافية". وأصدر عدة مؤلفات منها: "ترميم الذاكرة" و"خارج السرب" و"الكتابة بحبر أسود".

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"