المجتمع العميق

شيء ما
02:39 صباحا
قراءة دقيقتين
د . حسن مدن
كثر الحديث في السنتين أو الثلاث المنصرمة عما أطلق عليه الدولة العميقة، خاصة على خلفية الهبة العامة في مصر التي أطاحت بحكم الإخوان المسلمين، ويقصد بها أجهزة الدولة الراسخة كالجيش والقضاء والإعلام والأمن والأجهزة الإدارية وسواها، وهي أجهزة استخف الإخوان المسلمون بها وبدورها، لا بل استعجلوا محاولة السطو عليها، متجاهلين ما لها من نفوذ في بلد مثل مصر قائم على تقاليد إدارية موروثة منذ القدم، حيث اعتبرت مصر أفضل مثال على ما أطلق عليه "نمط الإنتاج الآسيوي"، إذ فرضت الحاجة إلى تنظيم الري في بلد نهري، زراعي وجود سلطة مركزية قوية، يلتف حولها الأهالي، ترسخ نفوذها عبر القرون، وتشكلت بنتيجتها بنية بيروقراطية راسخة .
لكن مصطلح الدولة العميقة استخدم أول مرة في تركيا في عشرينات القرن العشرين، حين استعان كمال أتاتورك بأجهزة الدولة، كما بالجيش، لتمكين مشروعه التحديثي، في تحقيق الفصل بين الدين والدولة، وعزز من نفوذهما إزاء البنى التقليدية التي سعى للحد من تأثيرها وتضييق نطاقها .
لكن ما نحن بصدده هنا ليس الدولة العميقة وانما المجتمع العميق، كمصطلح موازٍ للدولة العميقة، والعمق هنا ليس حكم قيمة يراد تحميله، بالضرورة، دلالات إيجابية للتعبير عن نضج المجتمع، فالمجتمع العريق مثل الدولة العميقة يتكون من طبقات متعددة تذهب في العمق، فيمكن للمجتمع في لحظات ارتداده أن يستعيد من تلك الطبقات أشكال الوعي الزائفة والمعيقة للتقدم كونها منتسبة لفترات زمنية ولت وفقدت مشروعيتها التاريخية، على نحو ما نشهده الآن في المجتمعات التي توفر الحواضن الشعبية للحركات التكفيرية .
لكن مصطلح المجتمع العميق يمكن أن يرد في سياق التعبير عن نضج المجتمع وعمق وعيه، فليس الجيش، على أهمية وحسم دوره، هو وحده من تحرك في مصر، إنما القوى المدنية مجتمعة والحركات الشبابية والنسوية والأزهر الشريف والكنيسة .
والأمر نفسه جرى مع الانتخابات الأخيرة في تونس، التشريعية منها والرئاسية، فلولا مخزون الوعي والتنظيم الذي يمتلكه المجتمع المدني هناك ما كان بإمكان القوى المدنية على ما بداخلها من تنوع أن تستعيد المبادرة بسرعة قياسية، وباستخدام آليات التحول الديمقراطي التقليدية، أي الانتخابات، ولأن الشيء بالشيء يذكر فإن ما تظهره حركة النهضة ذاتها من مرونة فكرية وسياسية هو ذاته تعبير عن نضج وعمق المجتمع التونسي، الذي أفرز نسخة من الإسلام السياسي أكثر ذكاء من نظيراتها .

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

كاتب من البحرين من مواليد 1956 عمل في دائرة الثقافية بالشارقة، وهيئة البحرين للثقافة والتراث الوطني. وشغل منصب مدير تحرير عدد من الدوريات الثقافية بينها "الرافد" و"البحرين الثقافية". وأصدر عدة مؤلفات منها: "ترميم الذاكرة" و"خارج السرب" و"الكتابة بحبر أسود".

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"