الميكافيلية تكسب

03:08 صباحا
قراءة 3 دقائق
أحمد مصطفى

الدرس الأساسي المستفاد من نتائج الانتخابات البريطانية هو أن «توظيف المكر والخداع في السياسة والعمل العام» - أي الميكافيلية - ما يكسبك الأصوات في الانتخابات ضمن «الديمقراطية التمثيلية» التقليدية. إن كنت أكثر الناس التزاماً بمبدأ، ولديك برنامج انتخابي طموح ويلبي احتياجات الناخبين، إلى آخر كل ما نعرفه عما هو تقليدي في التنافس للوصول إلى المنصب العام، لكنك لست ماهراً في استغلال أدوات التواصل المتاحة، فلن يكون حظك جيداً.
صحيح أن هناك عوامل كثيرة لعبت دوراً في الخسارة الفادحة لحزب العمال المعارض والفوز الكبير لحزب المحافظين الحاكم، لكن العامل الحاسم الحقيقي هو الجمود التقليدي للعمال مقابل المرونة الشديدة للمحافظين. سمّ ذلك ما شئت، وصف الجمود بأنه استقامة، وصف المرونة بأنها مراوغة، لكن في النهاية «العبرة بالنتائج». فلا معنى لمثالياتك وبرامجك الرائعة وأنت غير قادر على تنفيذها، لأنك لم تفز بأصوات الناخبين.
نعم، تلك هي براغماتية «الغاية تبرر الوسيلة» التي شاعت كخلاصة كتاب سياسي في عصر النهضة الإيطالي نيكولو ميكافيلي. وإذا كنت ترى في الميكيافيلية أمراً سلبياً، فربما يفضل أن تتجنب السياسة. وتلك مشكلة زعيم العمال جريمي كوربن ذي التاريخ الطويل في قيادة حملات ضد السياسة السائدة في بريطانيا والعالم، فهو ناشط أكثر من كونه سياسياً.
على العكس، وعلى الرغم من أن زعيم حزب المحافظين رئيس الوزراء بوريس جونسون ليس بالخفة التي يتصورها البعض، فهو دارس وصحفي وكاتب قبل أن يكون سياسياً، إلا أنه لا يوفر وسيلة ميكافيلية في شق طريقه السريع نحو مناصب السياسة، من انتخابه عمدة لندن عام 2008 إلى فوزه بزعامة حزبه، ثم فوزه الكبير في الانتخابات المبكرة.
يمكن بالطبع لوم كوربن على الهزيمة، وكذلك لوم الإعلام كما يقول كوربن بحملات التشويه التي شنها عليه، لكن الأقرب للدقة في تبرير الهزيمة هو «البريكست» أي خروج بريطانيا من أوروبا. ليس لأن الانتخابات اختطفت بالبريكست كما يقول كوربن، وليس لأن الناس صوتت للبريكست مجدداً، كما يقول المحافظون. وإنما لأن بوريس جونسون وفريقه من المحافظين جعلوا «لننجز بريكست» شعارهم المبسط.
أما كوربن وفريقه في العمال، فاعتمدوا على الحملات التقليدية، وأعدوا برنامجاً جيداً. وبعد قراءة أكثر من دراسة تحليلية لنتائج الانتخابات، يمكن أن يخلص إلى أن المحافظين لم يكسبوا كماً هائلاً من الأصوات بقدر ما فقد العمال من الأصوات. والقدر الأكبر من الأغلبية التي حصل عليها الحزب الحاكم هي من دوائر عمالية أو دوائر تسمى «غير محسومة».
لماذا لم يصوت الناس لبرنامج جيد قدمه العمال، حتى لو كان كوربن شخصية جامدة وغير توافقية؟ وصوتوا للمحافظين على الرغم من أن جونسون مراوغ، ولم يقدم برنامجاً، وإنما قال للجماهير: «البريكست هو الحل»، على طريقة تنظيم الإخوان في البلاد العربية، من دون أن يتعهد بماذا بعد البريكست؟ الإجابة هي أن الميكافيلية تكسب، وهذا ما فعله جونسون وفريقه، ولم يدركه كوربن وفريقه.
لدى جونسون مستشار يدعى دومينيك كمينجز ينتقده الجميع في الحكم والمعارضة، وكذلك الإعلام. لكنه كان أحد الذين جعلوا البريطانيين يصوتون للبريكست في استفتاء 2016 بشعارات وإعلانات مفبركة. المهم أنه يجيد استخدام وسائل التواصل الإلكترونية، ويعرف كيف يقنع الناس بمقاطع قصيرة وبسيطة حتى لو كانت مفبركة.
في هذه الانتخابات استخدمت مهارات كمينجز مع فريق أقرب لمحترفي «التسويق الرقمي»، وكثفوا العمل عبر الإنترنت ومواقع التواصل بحملات «مشخصنة»، أي معدة خصيصاً للجمهور المستهدف حسب المناطق والشريحة الاجتماعية. وكانت النتيجة مؤثرة بالشكل الذي شهدناه. أما حزب العمال، فلم يكن لديه شعار مبسط ومباشر، والأخطر أنه لم يعمل على استخدام أدوات التواصل الإلكترونية الفعالة، متصوراً أن برنامجه الذي يزيد على مئة صفحة، ويغطي كل جوانب القصور الحكومي في الواقع، ويقدم حلولاً لها سيجعل الناس تصوت له.
هذا الدرس لا يقتصر على بريطانيا، وخاصة أننا نرى كثيراً من الكتاب والمعلقين العرب يأسفون لهزيمة العمال وكوربن. هؤلاء أيضاً بعيدون إلى حد ما عن سيكولوجية الجماهير في زماننا هذا، بالضبط كما كان تصرف العمال في بريطانيا. وسيكون مريحاً للبال أن تنتقد الميكافيلية، وتسحب معايير أخلاقية صارمة على السياسة، لكن الواقع أن تلك هي الوسيلة لتصبح في السلطة، أياً كان موقفك الأخلاقي والقيمي منها. وفي الإجمال تحتاج أنبل الغايات لميكافيلية الوسيلة حتى يمكن أن تبلغها وتنجزها.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

يشتغل في الإعلام منذ ثلاثة عقود، وعمل في الصحافة المطبوعة والإذاعة والتلفزيون والصحافة الرقمية في عدد من المؤسسات الإعلامية منها البي بي سي وتلفزيون دبي وسكاي نيوز وصحيفة الخيلج. وساهم بانتظام بمقالات وتحليلات للعديد من المنشورات باللغتين العربية والإنجليزية

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"