الاكتئاب يبدأ بلا أعراض

16:22 مساء
قراءة 8 دقائق
يخلط عامة الناس بين مشاعر الحزن ومرض الاكتئاب، والحقيقة أن مشاعر الحزن عوارض مؤقتة، تصيب كل الناس في أوقات مختلفة وطرق متنوعة، ولا تستمر هذه المشاعر السلبية سوى دقائق أو ساعات وربما أياماً، لكنها تنتهي دون الحاجة إلى علاج دوائي، بينما يعتبر الاكتئاب أحد أخطر الأمراض التي تصيب البشر، وتتعدد الأسباب التي تقود إليه، كما ينقسم إلى نوعين رئيسيين، كلاهما يستجيب للعلاج الدوائي إذا اكتشف مبكراً، إذ يعتمد العلاج على إعادة التوازن بين العناصر الكيميائية التي يتعامل معها المخ، إضافة إلى بعض العوامل الخارجية، وتصل مضاعفاته إلى مراحل خطرة تهدد المريض ومن حوله، إذا لم يتلقى العلاج في الوقت المناسب وبالجرعات الكافية.
صحيح أنه لا تتوافر معطيات إحصائية دقيقة، لكن الاكتئاب يعتبر مرضاً واسع الانتشار، ويتعدى جميع الحدود والفوارق، العرقية، والإثنية والاجتماعية والاقتصادية.
ويمكن تعريف الاكتئاب على أنه مزيج من مشاعر الحزن، والوحدة، والشعور بالرفض من قبل الآخرين، وقلة الحيلة والعجز عن مواجهة مشاكل الحياة، وحسب تعريف المعهد الأمريكي للصحة العقلية: «خلل في سائر الجسم يشمل الجسد والأفكار والمزاج، ويؤثر في نظرة الإنسان لنفسه ومن حوله من أشخاص وما يحدث من أحداث، حيث يفقد المريض اتزانه الجسدي والنفسي والعاطفي».
وطبقاً للتعريف السابق فإن الاكتئاب لا يؤثر فقط في حالة المريض، ولكن يتعداها إلى المحيطين به، كذلك لا يسيء فقط إلى صحته النفسية، ولكن يتجاوزها إلى الحالة العضوية، ما يؤكد أن المشكلة مزدوجة، وتحتاج إلى حلول طبية متكاملة.
ويتعامل أغلب العاملين في مجال الصحة مع الاكتئاب كمرض مزمن، يتطلب علاجاً طويل المدى، بالضبط كما يتم التعامل مع مرض السكري أو مع ارتفاع ضغط الدم، وبعض المصابين بمرض الاكتئاب يتعرضون لفترة واحدة من الاكتئاب فقط، لكن أغلب المرضى تتكرر لديهم أعراض المرض وتستمر مدى الحياة، وإذا تم التشخيص والعلاج بشكل سليم، فعندئذ يمكن التقليل من الأعراض، حتى لو كانت حادة، والعلاج السليم يمكن أن يحسّن شعور المصابين في غضون أسابيع معدودة، ويمكـنهم من العودة إلى ممارسة حياتهم الطبيعية كما اعتادوها قبل الإصابة بالمرض.
ومن أهم أعراض الاكتئاب، التشاؤم والشعور بالدونية والعجز والتراجع عن مواجهة المشكلات اليومية مع دوام الشعور بالحزن والقلق وتعكر المزاج، وفقدان الاهتمام بالأمور العاجلة والضرورية، وعدم الشعور بالمتعة في الأنشطة المحببة للنفس، إضافة إلى الشعور بالذنب، والعجز عن إظهار أو تقبل العواطف من وإلى الآخرين، علاوة على الإفراط في تناول الطعام أو الابتعاد عنه، وظهور مشكلات النوم فإما أن تطول فتراته أو تقل بصورة غير اعتيادية، مع آلام جسدية مزمنة لا ينفع معها علاج، وفي بعض الأحيان يصاب المريض بنوبات بكاء، إلا أنه لا يمكن الاعتماد عليها كعرض وحيد عند التشخيص،
وعند تطور الحالة تظهر الأعراض الخطيرة على المريض، ومنها محاولة الانتحار، أو إيذاء بعض المقربين.ويؤكد خبراء الصحة النفسية أن الاكتئاب ينقسم لنوعين، تفاعلي وذهاني، الأول لا تظهر أعراضه واضحة للمريض ولا للمحيطين به، وبالتالي يحافظ المريض على اتصالاته الاجتماعية وعلى مظهره الجيد من الناحيتين المادية والمعنوية، وربما تمتد مدة المرض إلى عام أو عامين، يؤدي المريض خلالهما متطلبات وظيفته، ولا يلاحظ من يحيط به أية تغيرات نفسية واضحة عليه، إلا أن الطبيب المختص يستطيع بسهولة تشخيص المرض في هذه الحالات اعتماداً على الخبرة، وذلك لأن المريض ربما تتطور إصابته في حالة تم إهمال العلاج أو عدم اكتشاف الحالة، فتتمثل المضاعفات في الإصابة بالنوع الثاني، الاكتئاب الذهاني، الذي يعرف بالتدهور الشديد في حالة المريض النفسية خلال مدة قصيرة من بداية ظهور الأعراض، ثم لا يلبث أن يفقد ثقته في المحيطين به حتى أقرب الأقربين (مثل الزوجة والأبناء)، ويهمل مظهره الخارجي ويفقد إحساسه بالممنوعات والمحاذير الاجتماعية المتعارف عليها، وربما لا يجد غضاضة في التعرّي أمام الغرباء نتيجة فقدانه ميزان التمييز الاجتماعي، وتراجع القدرات العقلية التي تمنعه من ذلك في الأحوال العادية.
ولتشخيص المرض بدقة، يطرح الأطباء والمعالجون أسئلة حول المزاج والأفكار، خلال اللقاءات العلاجية الاعتيادية، أحياناً، يطلب من المريض تعبئة استمارة أسئلة تساعدهم في الكشف عن أعراض الاكتئاب.
ومن الصور النادرة وغير المتوفرة في مجتمعاتنا العربية نوع يعرف باكتئاب نقص الضوء الطبيعي، ويصيب سكان المناطق المظلمة من العالم مثل الدول الاسكندنافية، نتيجة ندرة شروق الشمس وقلة ساعات النهار، ولعل ذلك تفسير منطقي لارتفاع معدلات الانتحار في هذه الدول، حيث يطول الليل إلى 22 ساعة، ويقتصر النهار على ساعتين يومياً.
وربما تظهر أعراض الاكتئاب عند شخص عمره 18 سنة بشكل مختلف عن تلك التي تظهر عند شخص عمره 80 سنة، وربما تظهر لدى بعض المصابين بمرض الاكتئاب بعض الأعراض الحادة إلى درجة واضحة تشير إلى أن شيئاً ما ليس على ما يرام، وربما يشعر آخرون بأنهم «ليسوا سعداء»، دون أن يعلموا سبباً لذلك.
ومن الغريب أن المرض يظهر في بعض الحالات بصورة مداهمة، أي دون أعراض أو ظواهر، ويفسر العلماء ذلك بوجود خاصية تراكم الانفعالات لدى نوع من الناس، فلا يظهرون مشاعر الغضب أو الامتعاض من السلبيات التي تحيط بهم، وربما لا يستطيعون مقاومة الضغوط الحياتية التي تواجههم في محيط العمل أو الأسرة، ويؤدي اختزان المشاعر السلبية لفترات طويلة إلى تغيرات نفسية مفاجئة، يمكن وصفها بانفجار الوضع المتراكم، ويفيد العلماء بأن فئة من البشر لديهم الاستعداد الطبيعي للإصابة بالمرض، ولكن لا تظهر عليهم أي أعراض، ما داموا لم يتعرضوا لضغوط أو عوامل مساعدة، بينما يصاب بعض الناس بالمرض نتيجة لعوامل بيئية أو نفسية أو لكليهما معاً.
ويؤكد الأطباء أن الاستعداد الطبيعي يعني عدم التوازن في تركيز الموصلات العصبية في الدماغ، ولكن ليس هناك جواباً، للسؤال الذي يقول هل التغييرات الكيميائية البيولوجية هي السبب أو النتيجة لحدوث ضغوط نفسية يعانيها المريض، إلا أن العلماء يؤكدون دور الوراثة الواضح في الإصابة بالاكتئاب، حيث كشفت الأبحاث أن نحو ثلثي المصابين بمرض الاكتئاب لديهم أفراد عائلة أو أقرباء أصيبوا بالمرض.
أصبحت سن الشباب والمراهقة، التي من المفروض أن تكون أسعد أوقات الإنسان من أتعس فترات الحياة عند الكثير من الشباب والمراهقين في العصر الحديث، حيث يميلون إلى التعبير عن مشاعرهم الداخلية نحو متطلبات المجتمع العصري ومشاكله العديدة من خلال إظهار مشاعر الغضب والتمرد أو الهرب من المنزل أو إدمان الكحول والمخدرات أو إظهار السلوك العدواني، سواء في المنزل أو المدرسة أو العمل ويرى المختصون أن عدم معالجة حالات الاكتئاب عند المراهقين تحمل معها مخاطر إقدام المرضى على الانتحار، بدليل زيادة نسبة الانتحار لأكثر من ثلاثة أصناف بين فئات المراهقين والشباب، من كلا الجنسين وذلك حسب الإحصاءات الأمريكية.
وإضافة إلى النوعين السابقين من الاكتئاب، يؤكد العلماء وجود أنواع أخرى فرعية ترتبط بحالات مؤقتة، مثل اكتئاب ما بعد الجلطة، الذي يصيب 50 % من ضحايا السكتة الدماغية الناجين من الموت بشلل في نصف الجسم طولياً.
الذين يعجزون عن تحريك أعضاء الجانب الأيمن أو الأيسر من المخ، حسب الجزء المتضرر من الدماغ، هذه الفئة تصاب بالاكتئاب نتيجة العجز عن القيام بالمهام اليومية رغم عدم شعورهم بأي ألم أو أعراض أخرى، فقط العجز عن الحركة، وتضاف إلى هذه المشكلة بعض الأعراض أخرى، فإذا كان مريض الجلطة يعاني العجز عن الكلام نتيجة تضرر مركز الكلام في المخ، ففي هذه الحالة يعتبر الاكتئاب من النوع الذي يستلزم العلاج بالعقاقير، التي تعيد إلى المخ توازنه الكيميائي وإلى المريض شعوره بالرضا عما أصابه، كما تعتبر حالات اكتئاب ما بعد الولادة صورة واضحة للمرض، تحتاج التدخل الطبي الفوري بمجرد ظهور الأعراض، حيث تصاب الأم بمشاعر الرفض تجاه المولود وربما تحاول إيذاءه، وتعتبر التغيرات الهرمونية للأم وقلة عدد ساعات الراحة والنوم علاوة على الشعور الزائد بالمسؤولية تجاه الطفل الجديد، مع تزايد تحذيرات الأهل بضرورة رعايته حتى لا يصاب بمكروه، أسباباً للإصابة بهذا النوع، ويحتاج إلى العلاج الدوائي بعقاقير لا تتعارض مع رضاعة الطفل، كما تترافق الإصابة بالاكتئاب مع بعض الأمراض العضوية المزمنة مثل الصرع، وإصابات الرأس، والجلطة القلبية والسرطان وحتى مرض السمنة، علاوة على إطالة أمد العلاج باستخدام المسكنات لفترات طويلة، وتعاطي الخمور أو المخدرات، كما تعتبر فئة الإناث أكثر إصابة به من الذكور، بصرف النظر عن الشرائح السنية، حيث جرت عادة النساء على الاستسلام لمشاعر الحزن والسماح لها بالسيطرة الكلية على مشاعر الإنسان الأخرى، وبالتالي الوقوع في دوامة الحزن الدائم والعميق على عكس الذكور الذين يستطيعون نسيان الحزن بطريقة أو أخرى.
وتدخل مشكلات الحياة العصرية المختلفة مثل فقدان الأهل والأحبة المفاجئ أو مشاكل العائلة والأسرة والزواج والطلاق وانهيار المبادئ والقيم الأخلاقية في المجتمعات الحديثة والفقر وعدم القدرة على توفير سبل ووسائل العيش الكريم في بعض المجتمعات، ضمن الضغوط النفسية اليومية التي يعاني منها الإنسان، وجميعها يؤدي للإصابة بالاكتئاب كردة فعل نفسية طبيعية.
ويؤكد خبراء الصحة النفسية أن حوالي 90 % من حالات الاكتئاب يمكن شفاؤها إذا طلب المريض المساعدة الطبية، والمدة اللازمة لحدوث الشفاء تتراوح بين ثلاثة إلى ستة شهور من العلاج الطبي، الذي يتضمن الجلسات النفسية والعلاج بالعقاقير، ويستهدف العلاج النفسي علاج الأسباب الرئيسية للمرض، بينما يستخدم العلاج بالعقاقير المضادة للاكتئاب، التي من شأنها إعادة التوازن الكيميائي إلى الدم من حيث كمية تركيز الموصلات العصبية في الدماغ، وهي تسبب أعراضاً جانبية وتحتاج لمدة تزيد على بضعة أسابيع لكي تظهر آثارها الإيجابية في علاج المرض، كما تستخدم في علاج أمراض نفسية أخرى مثل القلق والتوتر وأمراض الهلع والذعر الشديد والمفاجئ، إضافة لأمراض الاستحواذ النفسي السلوكي.
وحسب رأي المؤسسة الأمريكية للصحة العقلية، فإن كلاً من العلاجين النفسي والدوائي بالعقاقير وسائل فاعلة في علاج مرض الاكتئاب واستخدامهما معاً ربما أكثر فاعلية في علاج المرض، كما استخدمت حديثاً طريقة العلاج بالضوء وتستخدم بنجاح في علاج الاكتئاب الموسمي، ويقوم المعالج بتعريض المريض لجلسات يومية لساعات عدة، أمام ضوء نيون أو أي نوع من الأضواء التي تشبه ضوء الشمس.
أما العلاج بالصدمات الكهربائية فيعد الخيار الأخير، وحسب رأي الجمعية الأمريكية للطب النفسي فيعد من أفضل أنواع العلاج للحالات الشديدة من الاكتئاب، التي تتميز بأعراض مثل امتناع المريض كلياً عن الطعام وعدم القدرة على النوم وظهور أعراض وسلوكات تدل على الرغبة والنية في الانتحار.
تؤكد الأبحاث التي استخدمت التصوير بتقنيات حديثة ومتطورة حصول تغيرات فيزيائية (مادية) في أدمغة الأشخاص المصابين بمرض الاكتئاب، ولم يعرف حتى الآن، ماهية هذه التغيرات ودرجة أهميتها، لكن استيضاح هذا الأمر من شأنه المساعدة، في تعريف مسببات الاكتئاب وتحديدها، ولكن من المؤكد أن المواد الكيميائية الموجودة في دماغ الإنسان بشكل طبيعي، أي «الناقلات العصبية» لها علاقة بالمزاج، وتلعب دوراً مهماً، كما أن خللاً في التوازن الهرموني في الجسم من شأنه أن يكون سبباً في الإصابة بالمرض.
هناك الكثير من الأمراض التي يشكل الاكتئاب أحد أعراضها، تقييم الطبيب أو المعالج النفساني يساعد في تحديد حالة الاكتئاب هل هو حاد؟ أو أحد الأمراض الأخرى؟ التي تذكر بمرض الاكتئاب الحاد، أحياناً، ومن بينها اضطراب الأحكام وهو رد فعل عاطفي حاد على حدث مؤلم في الحياة، ويرتبط بالتوتر النفسي ومن شأنه التأثير في العواطف، والأفكار والسلوك، وكذلك مرض الاضطراب ذو الاتجاهين (الاضطراب ثنائي القطب)، ويتسم هذا النوع من الاضطراب بمزاج متقلب من النقيض إلى النقيض.
لا توجد طريقة للوقاية من الاكتئاب، لكن يجب اتخاذ تدابير للسيطرة على التوتر، ولرفع مستوى البهجة والتقدير الذاتي، كذلك الدعم من قبل الأصدقاء والأهل، وخاصة في فترات الأزمات لأن ذلك يساعد على الوقاية.
التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"