الاقتصاد الروسي بين الصعود والتراجع

01:46 صباحا
قراءة 5 دقائق

في السابع والعشرين من سبتمبر/أيلول الماضي وفي كلمة ألقاها أمام حشد من رجال الأعمال في المنتدى الاستثماري الدولي سوتشي 2013، وأيضاً في مقاله في صحيفة فيدوموستي عبّر رئيس الوزراء الروسي ديمتري ميدفيديف عن قلقه بشأن الاقتصاد الروسي الذي رأى أنه على مفترق طرق، وأنه من الضروري العمل على تجنب سقوط روسيا إلى الهاوية . وعلى العكس من ذلك، وفي كلمة ألقاها يوم 2 أكتوبر/تشرين الأول أمام المنتدى الاستثماري السنوي روسيا تنادي، أكد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين تفاؤله بشأن مستقبل الاقتصاد الروسي، وثقته في قدرته على تجاوز أي أزمات مستقبلية، واعتبر أن النتائج الاقتصادية لعام 2012 كانت مرضية . الأمر الذي أثار التساؤل حول حقيقة الوضع الحالي والمستقبلي للاقتصاد الروسي، وهل هو فعلاً على حافة الهاوية كما يتخوف ميدفيديف، وإذا كان الأمر كذلك فما هي طبيعة الإجراءات والإصلاحات المطلوبة لإنقاذ روسيا؟ وما هي دلالة ذلك كله سياسياً؟

الواقع أن كلاً من ميدفيديف وبوتين ينظران إلى ذات الكوب، إلا أن بوتين يشير إلى الجزء الممتلئ منه ومن ثم يشعر بالتفاؤل إزاء أداء الاقتصاد الروسي، في حين ينظر ميدفيديف بقلق إلى جزئه الفارغ، ويتخوف من التحديات التي تواجه حكومته والتي قد تعصف به وربما بالنظام كله .

فمن ناحية تعكس المؤشرات الاقتصادية لعام 2012/2013 حالة جيدة للاقتصاد الروسي، حيث حققت روسيا معدل نمو نحو 3،5% عام ،2012 ولديها ثالث أكبر احتياطي عالمي من الذهب والعملات الصعبة (9،514 مليار دولار في سبتمبر/أيلول 2013)، وأقل مستوى للدين الخارجي 3% تقريباً من إجمالي الناتج المحلي، وبلغ عجز الميزانية 420 مليون دولار فقط عام 2012 أي ما يعادل أقل من 1 .0% من إجمالي الناتج المحلي . كما أن نسبة البطالة بلغت 4،5%، وبلغ معدل التضخم 7 .4% خلال الأشهر التسعة من عام 2013 . وتتمتع روسيا بالاكتفاء الذاتي من الحبوب منذ سنوات وتصدر ملايين الأطنان من القمح سنوياً (3 .15 مليون طن عام 2012 بقيمة 282 .4 مليار دولار، في واحدة من أقل التقديرات حيث بلغت صادرات القمح 2 .27 مليون طن عام 2011) . وارتفعت الاستثمارات الأجنبية في الاقتصاد الروسي في النصف الأول من العام الحالي بنحو 11%، وبلغت أكثر من 370 مليار دولار .

يضاف إلى هذا أن روسيا عضو مجموعة الثماني، نادي القوى الاقتصادية الكبرى، منذ عام ،2002 وحصلت على عضوية منظمة التجارة العالمية في أغسطس/آب 2012 بعد مفاوضات استمرت 18 عاماً . وفي دراسة تحليلية وصف خبراء مجموعة سيتي غروب الأمريكية السوق الروسية ببر أمان أكثر استقراراً، مقارنة باقتصاد منطقة اليورو .

ورغم كل المؤشرات السابقة يظل هناك مجموعة من التحديات التي تثير القلق بشأن مستقبل الاقتصاد الروسي . يتمثل أولها في التداعيات المحتملة للوضع شديد التعقيد في الاقتصاد العالمي والأسواق المالية وبوادر الكساد العالمي التي تلوح في الأفق، التي ستنعكس سلباً بالتأكيد على الاقتصاد الروسي . فالاتحاد الأوروبي يعاني أزمة اقتصادية خانقة هي الأقسى منذ الحرب العالمية الثانية ما يهدد بتراجع التبادل التجاري الروسي مع أوروبا التي تستأثر بنصف حجم تجارة روسيا الخارجية . يضاف إلى هذا تصاعد المشاكل الاقتصادية في الولايات المتحدة، وإعادة هيكلة نموذج النمو الاقتصادي في الصين التي تستأثر بأكثر من 10% من تجارة روسيا الخارجية .

ثانيها، اعتماد الاقتصاد الروسي على عوائد صادرات النفط والغاز اللذين يمدان الموازنة الروسية بأكثر من 55% من وارداتها . ومن ثم تزداد المخاوف من تعرض روسيا لأزمة اقتصادية طاحنة نتيجة تراجع أسعار النفط أثر التعقد السابق الإشارة إليه في الأسواق العالمية . ففي حال تراجع أسعار النفط إلى ما دون 70 دولاراً للبرميل ستكون هناك نتائج كارثية على الاقتصاد الروسي، وستجد روسيا نفسها أمام عجز كبير في الموازنة، وعدم قدرة على الوفاء بالالتزامات الاجتماعية، والوعود الانتخابية التي قطعها الرئيس بوتين أثناء حملته الانتخابية . وتتكرر المأساة السوفييتية، حيث لعب تراجع أسعار الطاقة في نهاية الثمانينات من القرن الماضي دوراً رئيساً في انهيار الاتحاد السوفييتي وفشل إصلاحات غورباتشوف، وأيضاً في الأزمة الاقتصادية الروسية عام 1998 التي وضعت البلاد على شفا الإفلاس إثر تراجع الطلب على النفط وهبوط أسعاره عقب أزمة النمور الآسيوية . وقد أشار ميدفيديف صراحة إلى ذلك في خطابه الذي ألقاه أمام منتدى دافوس في يناير/كانون الثاني الماضي، حيث قال: إن الأسعار المنخفضة جداً للنفط تقود إلى الهاوية .

ثالثها، تباطؤ نمو الناتج المحلي الإجمالي، فبعد أن وصل إلى نحو 7% قبل الأزمة المالية العالمية عام ،2008 تشير المؤشرات إلى أنه لن يتجاوز 2% عام ،2013 ليصبح أدنى من معدل النمو الاقتصادي العالمي، نتيجة ضعف الاستثمار في الاقتصاد الروسي وتراجع الطلب الخارجي، في الوقت الذي يرى ميدفيديف أن الهدف الرئيس للحكومة الروسية هو ضمان استقرار نمو الناتج المحلي الإجمالي بما لا يقل عن 5% . يضاف إلى ذلك هروب رؤوس الأموال من روسيا الذي بلغ 84 مليار دولار عام ،2011 و8 .56 مليار دولار عام 2012 نتيجة الاضطرابات الاقتصادية في الأسواق المتقدمة، الأمر الذي يدفع المستثمرين إلى إغلاق الأصول المحفوفة بالمخاطر، وضعف الإصلاحات البنيوية في روسيا . أيضاً تراجع سعر صرف الروبل منذ بداية العام الحالي، حيث ارتفع الدولار مقابل الروبل أكثر من 10% ليصل إلى 33 روبلاً للدولار الواحد . ولم تنجح تدخلات البنك المركزي الروسي في السوق البالغة 15 مليار روبل منذ مطلع العام في وقف تراجعه .

رابعها، الصعوبات الاقتصادية والمالية المترتبة على وفاء روسيا بالتزاماتها كعضو في منظمة التجارة العالمية . فرغم المكاسب المتوقع أن تجنيها روسيا مستقبلاً فإنه على الحكومة الروسية خفض معدلات الرسوم الجمركية من 6 .9% إلى 5 .7%، واتخاذ إجراءات لتكييف القطاعات الإنتاجية ليتلاءم عملها مع شروط منظمة التجارة العالمية، وتعديل برامج دعم الإنتاج الزراعي وبناء السفن والطائرات وفق معايير المنظمة، الأمر الذي يقتضي دعم المجمع الزراعي الصناعي الروسي بمبلغ 9 مليارات دولار خلال العام الجاري . وتشير بعض التقديرات إلى أن خسائر الميزانية الروسية نتيجة الانضمام إلى منظمة التجارة العالمية قد تبلغ 188 مليار روبل عام 2013 و257 مليار روبل عام ،2014 وأن الزيادة في حجم التجارة الخارجية قد تعوّض بعضاً فقط من هذه الخسائر .

خامسها، تحدي الفساد الذي يستنزف جزءاً كبيراً من الموارد الروسية . ويعتبر القضاء على الفساد مطلباً شعبياً وسياسياً تتزعمه قوى المعارضة، وقد أقر البرلمان الروسي في إبريل/نيسان الماضي قانونا يمنع أعضاء مجلسيه من فتح حسابات مصرفية في الخارج . وامتد هذا القانون ليشمل جميع الموظفين الحكوميين، بمن فيهم مسؤولو البنك المركزي والموظفون في الشركات والمؤسسات المملوكة للدولة .

ولا شك أن مواجهة هذه التحديات تتطلب جهداً كبيراً من الحكومة الروسية واتخاذ إجراءات سريعة وفعالة نحو تنويع الاقتصاد، والحد من اعتماده على تقلبات أسعار النفط والغاز . ويتضمن ذلك التركيز على تنمية الصناعات التحويلية وتلك المعتمدة على التقنيات العالية، وضرورة تحديث وتطوير قطاع الزراعة لكي تستعيد روسيا مكانتها كدولة زراعية رائدة عالميا، ودعم قطاع الأعمال الصغيرة والمتوسطة، من خلال تقديم إعفاءات للشركات الصغيرة الجديدة، والدعم المالي المباشر من صندوق الرفاه الوطني الاحتياطي إلى البنوك التجارية التي تقوم بدورها بتقديم القروض للشركات الصغيرة والمتوسطة بشروط ميسرة .

ويظل التحدي الأهم هو انعكاس ذلك كله على المواطن الروسي والارتقاء بمستوى المعيشة والخدمات المقدمة إليه على النحو الذي يهدئ من ثورة التطلعات في المجتمع الروسي خاصة في أوساط الشباب، وتحويل روسيا إلى دولة رفاهة ذات نظام اقتصادي واجتماعي وسياسي مستقر، أكثر قدرة على التصدي للصدمات الاقتصادية، وأكثر استجابة للمطالب والاحتياجات الاجتماعية المتنامية .

* أستاذ العلوم السياسية جامعة القاهرة

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"