«الغيبة.. منجنيق يرمي الحسنات»

البلاغة النبوية
02:19 صباحا
قراءة 4 دقائق
‬يقول‮: ‬ابن رشد القرطبي في كتابه‮ (‬البيان والتحصيل‮)‬: ‮‬«إن الشرع حرَّم الغِيبة، باعتبارها تصريحاً باللسان‮ ‬يفهم منه الإساءة للآخرين وذكر عيوبهم، وكذلك فإنَّ‮ ‬كل فعل أو حركة توحي‮ ‬بالمقصود هي‮ ‬غيبة‮، ‬أو هي‮ ‬ذكر العيب بظهر الغيب بلفظٍ، أو إشارةٍ، أو محاكاةٍ، أوأنْ‮ ‬يتكلَّم خلف إنسانٍ‮ ‬مستور بما‮ ‬يَغُمُّه لو سمعه، فإن كان صدقاً سُمِّيَ‮ ‬غِيبَةً، وإن كان كذباً سمِّي‮ ‬بُهتاناً».
ومن الآيات الكريمة المبالغة في تحريم الغيبة قوله سبحانه وتعالى: «‬وَلا‮ ‬يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ‮ ‬أَحَدُكُمْ‮ ‬أَن‮ ‬يَأْكُلَ‮ ‬لَحْمَ‮ ‬أَخِيهِ‮ ‬مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ‮ ‬وَاتَّقُوا اللَّهَ‮ ‬إِنَّ‮ ‬اللَّهَ‮ ‬تَوَّابٌ‮ ‬رَّحِيمٌ‮» (‬الحجرات: 12). وهذه الآية الكريمة تثير في النفوس الكراهة والاستقذار للغيبة فإنَّ‮ ‬أكل لحم الإنسان من أعظم ما‮ ‬يستقذره بنو آدم جبلةً‮ ‬وطبعاً، حتى ولو كان كافراً أو عدوّاً‮، ‮‬فكيف إذا كان أخاً في‮ ‬النسب، أو في‮ ‬الدين؟
‮‬قال الغزالي‮: «‬الذكر باللسان إنما حرم، لأن فيه ما‮ ‬يشير إلى نقصان أخيك وتعريفه بما‮ ‬يكرهه، فالتعريض به كالتصريح، والفعل فيه، كالقول والإشارة والإيماء والغمز والهمز والكتابة والحركة وكل ما‮ ‬يفهم المقصود فهو داخل في‮ ‬الغيبة فهو حرام‮».‬

كلمة تمزج البحر

‮‬وعن عائشة- رضي‮ ‬الله عنها- قالت‮: ‬قلت للنَّبي- صلى الله عليه وسلم-: ‬«حسبك من صفيَّة كذا وكذا»، فقال‮ صلى الله عليه وسلم: «‬لقد قلتِ‮ ‬كلمةً‮ ‬لو مزجت بماء البحر لمزجته‮»‬. ‮‬ومعنى مزجته‮: ‬خالطته مخالطة‮ ‬يتغير بها طعمه، أو ريحه، لشدة نتنها، وقبحها.
وقال النووي‮: ‬«هذا الحديث من أعظم الزواجر عن الغِيبة أو أعظمها، وما أعلم شيئاً من الأحاديث بلغ‮ ‬في‮ ‬ذمها هذا المبلغ، فإذا كانت هذه الكلمة بهذه المثابة، في‮ ‬مزج البحر، الذي‮ ‬هو من أعظم المخلوقات، فما بالك بغيبة أقوى منها‮؟».
‮‬وقال الغزالي‮: «‬الغِيبة، هي‮ ‬الصاعقة المهلكة للطاعات، ومثل من‮ ‬يغتاب كمن‮ ‬ينصب منجنيقاً، فهو‮ ‬يرمي‮ ‬به حسناته شرقاً، وغرباً، ويميناً، وشمالًا‮».‬ ‮‬وعن الحسن البصري‮ ‬أنَّ‮ ‬رجلًا قال له‮: ‬إنك تغتابني، فقال‮: (‬ما بلغ‮ ‬قدرك عندي‮ ‬أن أُحكمك في‮ ‬حسناتي‮)‬.
‮‬وقال صلى الله عليه وسلم: (‬يا معشر من آمن بلسانه ولم‮ ‬يدخل الإيمان قلبه، لا تغتابوا المسلمين، ولا تتبعوا عوراتهم، فإنه من اتبع عوراتهم تتبع الله عورته، ومن‮ ‬يتبع الله عورته‮ ‬يفضحه في‮ ‬بيته‮).

تنبيه وتشويق

إن الغِيبة تظهر عيوب الفرد المستورة، في‮ ‬الوقت الذي‮ ‬لا‮ ‬يملك فيه الدفاع عن نفسه‮، ‮‬كما أن من شأنها نشر الحقد، والحسد، والكراهية، والبغضاء، بين أفراد المجتمع، وقطع أواصر الأخوة، وملء القلوب بالضغائن والعداوات‮، ‮‬ولذلك‮ ‬يحذرنا الحبيب المصطفى لشفقته ورحمته بأمته‮: من الغيبة، فعن أَبِي‮ ‬هُرَيْرَةَ‮ ‬أَنَّ‮ ‬رَسُولَ‮ ‬اللَّهِ‮ ‬صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ‮ ‬وَسَلَّمَ‮ ‬قَالَ‮: «‬أَتَدْرُونَ‮ ‬مَا الْغِيبَةُ‮؟ ‬قَالُوا اللَّهُ‮ ‬وَرَسُولُهُ‮ ‬أَعْلَمُ، قَالَ‮: ‬ذِكْرُكَ‮ ‬أَخَاكَ‮ ‬بِمَا‮ ‬يَكْرَهُ‮ ‬قِيلَ‮ ‬أَفَرَأَيْتَ‮ ‬إِنْ‮ ‬كَانَ‮ ‬فِي‮ ‬أَخِي‮ ‬مَا أَقُولُ‮ ‬قَالَ‮ ‬إِنْ‮ ‬كَانَ‮ ‬فِيهِ‮ ‬مَا تَقُولُ‮ ‬فَقَدِ‮ ‬اغْتَبْتَهُ‮ ‬وَإِنْ‮ ‬لَمْ‮ ‬يَكُنْ‮ ‬فِيهِ‮ ‬فَقَدْ‮ ‬بَهَتَّهُ‮».‬
‮‬فهو‮ ‬يبين مفهوم الغيبة حتى‮ ‬يتجنبها كل مؤمن، وقد استخدم في ذلك عدة أساليب بلاغية‮ ‬منها‮: ‬أنه بدأ بأسلوب الاستفهام‮ (‬أتدرون ما الغيبة؟‮)‬ ‮‬تنبيهاً‮ ‬وتشويقاً‮ ‬بغرض إثارة المخاطب وتحريك مفهوم اللفظ في ذهنه واستحضاره تمهيداً‮ ‬لتصحيح مفهومه إذا كان به خطأ، أو تعريفه به إذا كان لا‮ ‬يعرفه‮.‬
‮‬ويزيد الأسلوب تشويقاً‮ ‬أن لفظ الغيبة من الألفاظ المعروفة وصدور الاستفهام عنه‮ ‬يوحي بجديد‮.‬
وسؤال‮ (‬أتدرون‮) ‬ ‬يدور مضمونه حول قضية تتصل بالعلم واليقين، وكان الجهل بها من باب الغفلة الشديدة عن أمر مهم‮.‬
‮‬وقوله في تعريف الغيبة‮: «‬ذكرك أخاك بما‮ ‬يكره» المسند إليه هنا محذوف لدلالة السؤال عليه، وتعبيره بالمصدر‮ (‬ذكرك‮) من ‬دون الفعل لإفادة الدوام والثبوت مما‮ ‬يوحي بالإصرار والقصد إلى الغيب والتعبير بالأخوة‮ ‬يزيد فعل المغتاب شناعة ويكشف عن قبح الفعل مما‮ ‬ينادي بوجوب رعاية حق الأخوة من الحفظ والستر والرعاية‮.‬
‮‬وتعبيره بالفعل المضارع‮ (‬يكره‮) ‬يفيد الاستمرارية وكأنه‮ ‬يشير إلى تجدد الكرة كلما تجدد الاغتياب‮.‬

أسلوب الشرط

‮‬وقوله: «إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته وإن لم‮ ‬يكن فيه فقد بهته»، استخدم الرسول‮ صلى الله عليه وسلم فيه ‬أسلوب الشرط ليحاكي أسلوب السائل ويحدد بدقة الفرق بين دلالتين متقاربتين تختلفان في درجة الإثم، وتتفقان في صفة واحدة منهي عنها؛ حيث إن‮ ‬الغيبة هي بذكر الإنسان بما‮ ‬يكره في‮ ‬غيبته‮ ‬والبهتان هو الباطل‮.‬
‮‬ويقول ابن كثير‮: ‬«الغِيبةُ‮ ‬محرَّمةٌ‮ ‬بالإجماع»، واعتبر ابن حجر الغِيبة من الكبائر حيث قال‮: ‬«الذي‮ ‬دلت عليه الدلائل الكثيرة الصحيحة الظاهرة، أنَّها كبيرة، لكنها تختلف عظماً، بحسب اختلاف مفسدتها‮».‬ ‮وقد اعتبرها رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنزلة قتل النفس، وغصب المال، بقوله‮ صلى الله عليه وسلم: ‮ (‬كل المسلم على المسلم حرام، دمه، وماله، وعرضه‮). ‬والقتل والغصب كبيرتان إجماعاً، فكذلك العرض‮. ‬
‮‬وسماع الغِيبة والاستماع إليها لا‮ ‬يجوز، فقائل الغِيبة وسامعها في‮ ‬الإثم سواء ففي‮ ‬فتاوى اللجنة الدائمة إجابة عن سؤال حكم سماع الغيبة‮، ‮‬نصت على أن سماع الغيبة مُحرم، لأنه إقرار للمنكر، والغيبة كبيرة من كبائر الذنوب، يجب إنكارها على من‮ ‬يفعلها‮. ‬وتكون التوبة من الغِيبة بالاستغفار والندم‮.‬

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"