ومن الآيات الكريمة المبالغة في تحريم الغيبة قوله سبحانه وتعالى: «وَلا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ» (الحجرات: 12). وهذه الآية الكريمة تثير في النفوس الكراهة والاستقذار للغيبة فإنَّ أكل لحم الإنسان من أعظم ما يستقذره بنو آدم جبلةً وطبعاً، حتى ولو كان كافراً أو عدوّاً، فكيف إذا كان أخاً في النسب، أو في الدين؟
قال الغزالي: «الذكر باللسان إنما حرم، لأن فيه ما يشير إلى نقصان أخيك وتعريفه بما يكرهه، فالتعريض به كالتصريح، والفعل فيه، كالقول والإشارة والإيماء والغمز والهمز والكتابة والحركة وكل ما يفهم المقصود فهو داخل في الغيبة فهو حرام».
كلمة تمزج البحر
وعن عائشة- رضي الله عنها- قالت: قلت للنَّبي- صلى الله عليه وسلم-: «حسبك من صفيَّة كذا وكذا»، فقال صلى الله عليه وسلم: «لقد قلتِ كلمةً لو مزجت بماء البحر لمزجته». ومعنى مزجته: خالطته مخالطة يتغير بها طعمه، أو ريحه، لشدة نتنها، وقبحها.
وقال النووي: «هذا الحديث من أعظم الزواجر عن الغِيبة أو أعظمها، وما أعلم شيئاً من الأحاديث بلغ في ذمها هذا المبلغ، فإذا كانت هذه الكلمة بهذه المثابة، في مزج البحر، الذي هو من أعظم المخلوقات، فما بالك بغيبة أقوى منها؟».
وقال الغزالي: «الغِيبة، هي الصاعقة المهلكة للطاعات، ومثل من يغتاب كمن ينصب منجنيقاً، فهو يرمي به حسناته شرقاً، وغرباً، ويميناً، وشمالًا». وعن الحسن البصري أنَّ رجلًا قال له: إنك تغتابني، فقال: (ما بلغ قدرك عندي أن أُحكمك في حسناتي).
وقال صلى الله عليه وسلم: (يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان قلبه، لا تغتابوا المسلمين، ولا تتبعوا عوراتهم، فإنه من اتبع عوراتهم تتبع الله عورته، ومن يتبع الله عورته يفضحه في بيته).
تنبيه وتشويق
إن الغِيبة تظهر عيوب الفرد المستورة، في الوقت الذي لا يملك فيه الدفاع عن نفسه، كما أن من شأنها نشر الحقد، والحسد، والكراهية، والبغضاء، بين أفراد المجتمع، وقطع أواصر الأخوة، وملء القلوب بالضغائن والعداوات، ولذلك يحذرنا الحبيب المصطفى لشفقته ورحمته بأمته: من الغيبة، فعن أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أَتَدْرُونَ مَا الْغِيبَةُ؟ قَالُوا اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: ذِكْرُكَ أَخَاكَ بِمَا يَكْرَهُ قِيلَ أَفَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ فِي أَخِي مَا أَقُولُ قَالَ إِنْ كَانَ فِيهِ مَا تَقُولُ فَقَدِ اغْتَبْتَهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ فَقَدْ بَهَتَّهُ».
فهو يبين مفهوم الغيبة حتى يتجنبها كل مؤمن، وقد استخدم في ذلك عدة أساليب بلاغية منها: أنه بدأ بأسلوب الاستفهام (أتدرون ما الغيبة؟) تنبيهاً وتشويقاً بغرض إثارة المخاطب وتحريك مفهوم اللفظ في ذهنه واستحضاره تمهيداً لتصحيح مفهومه إذا كان به خطأ، أو تعريفه به إذا كان لا يعرفه.
ويزيد الأسلوب تشويقاً أن لفظ الغيبة من الألفاظ المعروفة وصدور الاستفهام عنه يوحي بجديد.
وسؤال (أتدرون) يدور مضمونه حول قضية تتصل بالعلم واليقين، وكان الجهل بها من باب الغفلة الشديدة عن أمر مهم.
وقوله في تعريف الغيبة: «ذكرك أخاك بما يكره» المسند إليه هنا محذوف لدلالة السؤال عليه، وتعبيره بالمصدر (ذكرك) من دون الفعل لإفادة الدوام والثبوت مما يوحي بالإصرار والقصد إلى الغيب والتعبير بالأخوة يزيد فعل المغتاب شناعة ويكشف عن قبح الفعل مما ينادي بوجوب رعاية حق الأخوة من الحفظ والستر والرعاية.
وتعبيره بالفعل المضارع (يكره) يفيد الاستمرارية وكأنه يشير إلى تجدد الكرة كلما تجدد الاغتياب.
أسلوب الشرط
وقوله: «إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته وإن لم يكن فيه فقد بهته»، استخدم الرسول صلى الله عليه وسلم فيه أسلوب الشرط ليحاكي أسلوب السائل ويحدد بدقة الفرق بين دلالتين متقاربتين تختلفان في درجة الإثم، وتتفقان في صفة واحدة منهي عنها؛ حيث إن الغيبة هي بذكر الإنسان بما يكره في غيبته والبهتان هو الباطل.
ويقول ابن كثير: «الغِيبةُ محرَّمةٌ بالإجماع»، واعتبر ابن حجر الغِيبة من الكبائر حيث قال: «الذي دلت عليه الدلائل الكثيرة الصحيحة الظاهرة، أنَّها كبيرة، لكنها تختلف عظماً، بحسب اختلاف مفسدتها». وقد اعتبرها رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنزلة قتل النفس، وغصب المال، بقوله صلى الله عليه وسلم: (كل المسلم على المسلم حرام، دمه، وماله، وعرضه). والقتل والغصب كبيرتان إجماعاً، فكذلك العرض.
وسماع الغِيبة والاستماع إليها لا يجوز، فقائل الغِيبة وسامعها في الإثم سواء ففي فتاوى اللجنة الدائمة إجابة عن سؤال حكم سماع الغيبة، نصت على أن سماع الغيبة مُحرم، لأنه إقرار للمنكر، والغيبة كبيرة من كبائر الذنوب، يجب إنكارها على من يفعلها. وتكون التوبة من الغِيبة بالاستغفار والندم.