الاختباء داخل شجرة زيتون

03:46 صباحا
قراءة 5 دقائق
** الشارقة: محمدو لحبيب

ليست مجرد قيود تلك التي تثقل كاهل الأسير وتكبل حريته، وتغتال قدرته على التعامل بشكل طبيعي مع مفردات الحياة من حوله، إنها أشياء أقسى وأفدح من ذلك.
في الأسر تجتمع الغربة بكل معانيها الأليمة، وإحساسها المخضب بالسواد القاتم على قلب الأسير، مع ذل القيد في معصميه أو رجليه، أومع إحساسه بالقيد حتى ولو لم يكن مقيداً بالفعل، يجتمع كل ذلك فينتج شعوراً طاغياً لا يبارح النفس، ولا تستطيع منه فكاكاً مهماً حاولت الانشغال بتزجية الوقت بفعل أشياء مسلية في وحدة الأسر، أو بمحاولة التعرف إلى تلك البلاد الغريبة والمكان الجديد على الأسير.
ومن خضم تلك البوتقة المشغولة بالأسى والعجز والحصار المفروض على الذات وحريتها، برزت أعمال أدبية عدة شعراً ونثراً في مختلف الثقافات العالمية، لتشكل ما يمكن تسميته بأدب الأسرى أو أدب الأسير، ولو شئنا الدقة فلا يوجد هناك اصطلاح نقدي محدد على تسمية ذلك الأدب، أو تصنيفه ضمن ذلك الإطار، لكن ما يحدو بالبعض من النقاد إلى دراسته ومحاولة تحديده، هو أن تجربة الأسر التي وقع فيها عدد من الأدباء المشهورين، تركت أثراً بالغاً ومستحكماً في مجمل أعمالهم، بل إنها كادت أن تطغى على المشهد العام في الذاكرة التي تختزن إبداعاتهم الأدبية.
أمثلة ونماذج من الشرق إلى الغرب، اختلفت في حيثيات أسْرِها، وفي طريقة تعاملها معه، وفي طول مدته أو قصرها، وفي غلظة السجان أو رقته، وفي ظروف مختلفة عدة أحاطت بتجارب كل منها، لكنها اتفقت كلها تقريباً على أن تلك التجربة ظهرت وبشكل جلي على شكل إبداعي مازال صالحاً للقراءة من طرف كل الناس، ومازال قادراً على نقل تلك التجربة الإنسانية الأليمة، وكأنها حدثت للتو.
وفي ثقافتنا العربية وفي عمق تاريخ دولة بني حمدان، وما صاحبها من ازدهار الشعر والأدب فيها، وظهور شاعر يعتبر حتى الآن في عرف العديد من النقاد العرب أعظم شعراء اللغة العربية وهو المتنبي، لم يستطع ذلك كله أن يطمس تجربة فريدة من نوعها لشاعر فارس آخر هو أبو فراس الحمداني، والذي وقع في أسر الروم مرات عدة، وأرسل من قلب أسره قصائد عدة عرفت بالروميات لعل من أشهرها قصيدته:
أراك عصي الدمع شيمتك الصبر
                          أما للهوى نهي عليك ولا أمر
إلى أن يقول في قصيدته تلك التي بعثها لابن عمه الحاكم سيف الدصولة الحمداني مستجدياً إياه كي ينقذه من الأسر:
أسرتُ وما صحبي بعزلٍ، لدى الوغى
                       ولا فرسي مهرٌ، ولا ربهُ غمرُ
ولكنْ إذا حمَّ القضاء على امرئ
                             فليس له بر يقيهِ ولا بحر
وقال أصيحابي: «الفرار أوالردى؟
                      فقلت: هُمَا أمرَانِ، أحلاهُما مُرّ
ولكنني أمضي لما لا يعِيبني
                      وحسبك من أمرين خيرهما الأسر
وأبو فراس بالرغم من أنه اشتهر بأمور عدة من بينها فروسيته في المعارك وأشعاره ومساجلاته ضمنها، إلا أن الذي بقي في الوجدان الثقافي العربي عبر القرون هو تلك القصائد التي يروي فيها تجربته في الأسر وما اكتنفه من الغربة والأسى.
والنموذج الثاني الذي لا يمكن القفز فوقه أثناء استعراض تجربة الأسر ونتاجها الأدبي، هو المأساة الفلسطينية، التي بالرغم من جرحها المستمر بفعل عنهجية وتسلط الاحتلال وممارساته التي تحاول اغتيال الحياة بكل تفاصيلها حتى حرية التعبير عن تلك المعاناة، فقد أنتج لنا الأدب الفلسطيني نماذج عدة من أدب الأسْر، وأصبح ذلك الأدب وقوداً وحافزاً للمقاومة ضد الاحتلال، ولعل من الدلائل على قوة وصول ذلك النوع من الأدب، واختراقه لعتمة القيود والاعتقال، وتحوله إلى ملهم حقيقي، هو ما فعلته سلطات الاحتلال «الإسرائيلي» في العام الماضي حين أقدمت على تشديد العقوبة بحق أسير فلسطيني نجح في تسريب رواية كتبها عن تجربته في الأسْر والتي استمرت 33 عاماً.
وتتحدث رواية الأسير «وليد دقة» والمعنونة ب«حكاية سر الزيت»، عن ما يدور في عقل طفل يريد أن يزور أباه في السجن، لكنه لا يستطيع بسبب منع الاحتلال للزيارة
فيُقدم على الاختباء داخل شجرة زيتون، سيتم نقلها إلى الداخل، ويستطيع الطفل دخول السجن للزيارة، ليكشف عبر حوارات وتمثلات عدة مآسي الأسر ووقعه لا على الأسير فقط، بل على الأهل خارجه، وواقعهم الحياتي الصعب.
وفي استعراضهم لتجربة الأسر لدى كاتب من أشهر وأهم الكتاب عبر العالم وهو ميغيل دي سرفانتيس صاحب الرواية الشهيرة «دون كيشوت»، يرى عدد من مؤرخي الثقافة والنقاد والأدباء، أن تجربة الأسْر التي عاشها سيرفانتيس في الجزائر، أثرت بشكل مفصلي في وجدانه ككاتب، وطبعت بميسمها كل كتاباته تقريباً.
وفي ذلك الإطار يعتبر مؤرخ الثقافة الإسبانية أميركيو كاسترو أن أسْر سيرفانتيس هو: «أهم حدث مر به على صعيد تكوينه الروحي»، فيما يرى الناقد خوان بوتيستا آفالي آرسي، أن تجربة سيرفانتيس مع الأسر كانت: «المفصل الذي دارت وانتظمت حوله حياته الكاملة رغماً عنه»، أما الشاعر والروائي خوان غويتيسولو، فيلاحظ أن تجربة سيرفانتيس المريرة طوال خمس سنوات قضاها في الأسر في الجزائر، كانت تجربة طورت عنده أشياء كثيرة فيما يتعلق بقدرته على الكتابة فيما بعد.
وتؤكد الناقدة المختصة في أدب سيرفانتيس ماريا أنتونيا غارسيس ذلك المنحى وتستعرض تأثير تلك التجربة على عدة أعمال أدبية مختلفة لسيرفانتيس، فتقول: «تركت سنوات أسْره الخمس في الجزائر أثراً مهماً جداً في كتاباته؛ إذ نلاحظ تكرر تلك التجربة الصعبة في كل أعماله التي وضعها بعد تحريره، مثل مسرحيته «حياة في الجزائر»، ثم روايته «لا غالاتيا»، إضافة إلى روايته التي نشرت بعد وفاته وهي محاكمات بيرسيليس وسيغيسموندا».
ولعل أشهر أثر جسد تجربة الأسْر عند سيرفانتيس هو ذلك الجزء من روايته «دون كيشوت» والمعنون ب«قصة أسير»، ويذكر حنا عبود في كتابه «من تاريخ الرواية»، عن أن السجين في رواية «دون كيشوت» هو نفسه سيرفانتيس في الأسر بالجزائر.
وحتى ولو حاول المبدع في كل الأمثلة التي ذكرناها التلاعب بأدواته الفنية، وطمس قدر من التفاصيل الواقعية التي حدثت له، وتغيير الأماكن والشخصيات، وغير ذلك من الحيل الأدبية، فإن تلك التجربة الأليمة والتي قيدت فيها حريته تترك أثراً دائماً يمكن تلمسه بالرغم من كل شيء بوضوح وبقوة لا تتقادم بمرور الزمن، وهو ما يجعل تجربة الأسر في الأدب موضوعاً يستحق العديد من الدراسات التي لا تكتفي بحدود النقد فقط، بل تلج إلى التحليل السوسيولوجي والسيكولوجي وغيرهما.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"