الحياء.. أساس كل الفضائل

خرج من حياة الكثيرين ولم يعد
02:34 صباحا
قراءة 7 دقائق
الحياء عند علماء الأخلاق أساس كل الفضائل والانضباط الأخلاقي، وهو العمود الفقري لكل الآداب والسلوكيات الراقية، التي يجب أن يتحلى بها المسلم، ولا يفارقها أبداً في كل المواقف، وهو الذي يحدد ملامح شخصيته المتميزة، ويدفعه دائماً للحفاظ على عقيدته وكرامته، كما أن هذا الخلق الكريم يجنب من يتحلى به ويحرص عليه كل سلوك قبيح، فيكون مثالاً لكل سلوك متحضر.
والحياء بمقاييسه الإسلامية يمنع المسلم من التقصير في الحقوق، ويعصمه من مزالق الشر، ويفضي به إلى كل فضيلة وبر ومعروف، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: «الحياء خير كله».. فالحياء يدفع المسلم دائما إلى عمل الخير، والكف عن الشر، والسير في الطريق المستقيم، فلا يمكن للمسلم المتخلق بالحياء أن يفعل شرا، أو أن يسلك سلوكا منكرا، لأن خلق الحياء يمنعه من ذلك.

يقول د. طه أبو كريشة عضو هيئة كبار العلماء بالأزهر: الحياء خلق يرقى بسلوك المسلم ويلزمه بكل الخصال الحميدة، والمسلم الذي يحرص عليه ويتخلق به دائما يخشى ربه، ويخاف فضيحة الدنيا والآخرة، ويأتمر بأمر خالقه وينتهي بنهيه.. ولذلك قال الحكماء: «من لا حياء عنده لا خير فيه»، لأنه لا يرى بأسا في إعلان فسقه أو شره أو فجوره، ومن هذا وجب على الناس أن يحذروه.
والحياء خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد كان أعظم الناس حياء، في أفعاله وأقواله، حتى قال عنه أبو سعيد الخدري- رضي الله عنه- «كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أشد حياء من العذراء في خدرها، فإذا رأى شيئا يكرهه عرفناه في وجهه».. كما كان رقيق الظاهر لا يشافه أحدا بما يكرهه، وذلك حياء منه وكرم نفس. فقد نقلت لنا السيدة عائشة- رضي الله عنها- بعض خصاله الكريمة وقالت: «كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا بلغه عن أحد ما يكرهه لم يقل ما بال فلان يقول كذا.. ولكن يقول: ما بال أقوام يصنعون أو يقولون ولا يسمي فاعله».

رأس مكارم الأخلاق

ويضيف: لقد علمنا رسولنا العظيم صلوات الله وسلامه عليه أن الحياء هو مقياس الأخلاق الحسنة وعلامتها؛ بل إنه رأس مكارم الأخلاق، يقول صلى الله عليه وسلم: «إن لكل دين خلقاً وخلق الإسلام الحياء»، كما قالت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: «رأس مكارم الأخلاق الحياء».
كل هذه النصوص تؤكد حاجة المسلم في كل عصر، وفي كل مكان يذهب إليه إلى خلق الحياء، فهذا الخلق الكريم الجامع لكل خصال الخير، هو الذي يضبط سلوك الإنسان ويدفعه إلى فعل المحاسن، ويبعده عن كل القبائح، فهو كما قال الرسول «لا يأتي إلا بكل خير».
وصور حياء المسلم- كما يقول د. أبو كريشة- كثيرة ومتنوعة، فمن أرقى مظاهره (استحياء العبد من خالقه)، وقد قال العلماء: (من أعظم أنواع الحياء ألا يراك الله حيث نهاك)، وهذا الصنف من الحياء أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: «أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك».
وكمال هذا النوع من الحياء ما جاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: «أن يحفظ الرأس وما وعى، والبطن وما حوى، وتذكر الموت والبلى، ومن أراد الآخرة ترك زينة الدنيا، فمن فعل ذلك فقد استحيا من الله حق الحياء».
وبعد استحياء المسلم من خالقه يأتي استحياؤه من المخلوقين بعدم الدخول فيما يكرهون من القول والفعل معاً، ويتحقق ذلك- كما يقول د. السيد رزق الحجر أستاذ الفلسفة الإسلامية في دراسته عن الحياء - بكف الأذى، وترك المجاهرة.

نوعان من الحياء

والحياء من الناس يقتضي- كما يقول د. محمد مختار جمعة وزير الأوقاف المصري- أن يتحلى صاحبه بالمروءة، وعدم الإقدام على ما يخدش الحياء قولاً أو فعلاً، سواء فيما يتصل بالشرف والنزاهة، أم بالذمة المالية، أم بالمظهر العام.. ذلك أن صاحب الحياء، إنسان عادل لا يظلم، أمين لا يغش، صدوق لا يكذب، وفيّ لا يغدر، مخلص لا ينافق، كريم لا يبخل، رحيم لا يقسو، فشخصيته متحلية بالفضائل متخلية عن الرذائل.
ويفرق بعض العلماء بين هذين النوعين من الحياء: الحياء من الله، والحياء من الناس، بأن الأول «فرض» والثاني «فضل».
والحياء قد يكون باستحياء الإنسان من نفسه، وحياؤه من نفسه يكون بالعفة والاستقامة في الخلوات، وهذا يؤكد اتزان شخصية صاحبه، فكل من يستحي من نفسه ولا يسلك سلوكاً فيه تفريط أو استهانة بالنفس هو إنسان سوي يعرف قدر نفسه ويصونها من كل ما يسيء إليها.
هذا الإنسان يعرف أن خالقه مطلع عليه حتى ولو اختفى عن عيون الناس، ويدرك جيدا معنى قول الحق سبحانه: «إن الله كان عليكم رقيبا»، وقوله عز وجل: «يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم».
روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر برجل من الأنصار يعظ أخاه في الحياء- أي يبين لأخيه ما ناله من ضرر بسبب حيائه- فقال له الرسول: «دعه فإن الحياء من الإيمان».
وخلق الحياء يدعم الصورة المتزنة السوية للمسلم، ولذلك قال العلماء: من الحياء أن يحرص المسلم على سمعته، فلا يقول أو يفعل ما يلوثها، ويعرضه للسخرية والأقاويل المغرضة، وكذلك من أبرز صور الحياء: محافظة المرأة المسلمة على كرامتها وحشمتها، ومراقبة ربها، وحفظها حق زوجها، والبعد عن مسالك الريبة ومواطن الرذيلة، فحياء المرأة هو سياجها وحصنها وحماها الذي تحمي به شرفها، وتصون به عرضها، وتحفظ به سمعتها وكرامتها.
أما ضعف الحياء في نفوس الناس فيؤدي إلى انتهاك الحرمات، والخوض في أعراض الناس وأنسابهم، فكم من كلمة أوقعت صاحبها في الإثم.. وكم من نظرة محرمة كانت مقدمة لفعل الفواحش.
ويقول د. جمعة: الإنسان الذي يتحلى بالحياء، يتسم بالمروءة والحرص على الفضائل والآداب الإسلامية، بغض النظر عن درجة تدينه، فهناك أمور لو لم يرد بها دين لتحلى بها أصحاب الطباع السليمة من العفة والطهارة ونظافة اليد، ونظافة الظاهر والباطن.. فالحياء شعور صارم حاد ينبعث من قلب تقي مؤمن فيهيمن على نفس صاحبه وجسمه ويسيطر على وجدانه وحسه، فلا يقترف فعلاً قبيحاً، ولا جريمة، ولا يأتي نقيصة ولا عيباً، ولا يرتكب منكراً ولا قبيحاً من السلوك.

حاجة مجتمعية

لكل ما سبق يطالب كثير من علماء الإسلام والتربية والأخلاق بضرورة استعادة خلق «الحياء» لمواجهة البلطجة الأخلاقية، والإسفاف السلوكي، والتحرش الجنسي، واسترجال البنات، وتخنث الذكور، وغير ذلك مما نعاني منه في بلادنا العربية.
يقول د. محمود حمدي زقزوق عضو هيئة كبار العلماء بالأزهر: مجتمعاتنا في أمس الحاجة إلى القيم والآداب الإسلامية لضبط سلوك أفرادها بأخلاق الإسلام، والحياء خلق مهم للغاية في منظومة الأخلاق الإسلامية، والتخلق به من شأنه أن يمنع الإنسان من فعل أي شيء لا يتفق مع الأخلاق الكريمة والسلوك الحميد، وبالتالي تتوافر الحماية للمجتمع من كثير من المشكلات والأزمات التي يعاني منها الآن.
فالحياء يمنع المسلم من الأفعال المرذولة، ويدفعه إلى الأفعال المحمودة، فهو مثلا يمنع الإنسان من رذيلة النفاق التي انتشرت في حياتنا، فأخلاق المسلم لا تسمح له بأن يكون ذا وجهين يفعل أمام الناس شيئا وبينه وبين نفسه يفعل شيئا آخر مخالفا.. فهذا ليس من المروءة ولا من الأخلاق الكريمة في شيء.. وهو في الوقت نفسه يدفعه إلى أن يكون صادقاً في أقواله ثابتاً على مبادئه، منحازا دائما إلى الحق والعدل.. ولذلك قال بعض علماء الأخلاق إن الحياء أساس كل القيم والأخلاق الإسلامية، فكل من رزقه الله خلق الحياء، لا يكذب، ولا يخون، ولا يظلم، ولا يغدر، ولا يخاف، ولا ينافق، ولا يسرق، ولا يفعل شيئاً يغضب الله عز وجل.. فهو إنسان صادق مع نفسه ومع خالقه، متواضع من دون مذلة، يعتز بنفسه من دون تكبر أو استعلاء على الناس.

غياب التربية الإسلامية

ويضيف: نحن في مجتمعاتنا العربية نعاني بالفعل من غياب أو تلاشي كثير من هذه الأخلاق والسبب هو غياب خلق الحياء الذي خرج ولم يعد إلى سلوك كثير من الناس، حيث نعاني من أنماط سلوكية غريبة لشبابنا من الجنسين تؤكد سقوط برقع الحياء عنهم كما يقول عامة الناس، فالتحرش الجنسي الذي نعاني منه، وتبجح بعض النساء في ملابسهن، وانتشار ظاهرة التدخين بين النساء، وجلوس بعض السيدات على المقاهي - بكل بجاحة- يدخنَّ الشيشة، وغير ذلك من الأنماط السلوكية الغريبة على تعاليم ديننا وعلى عاداتنا وتقاليدنا في البلاد العربية والإسلامية.
وغياب الحياء يؤدي إلى مشكلات اجتماعية، لأن الحياء ليس فضيلة فردية خاصة بصاحبها فحسب، بل هو «فضيلة اجتماعية» يصل أثرها إلى دائرة أوسع حيث تشمل المجتمع بأسره. ولذلك أكد الإسلام عليها تأكيدا كبيرا، وجعلها الرسول صلى الله عليه وسلم جزءا لا يتجزأ من الإيمان، بل جعلها معبرة عن خلق الإسلام كما ورد في الحديث النبوي: «إن لكل دين خلقاً، وخلق الإسلام الحياء».
وعن أسباب غياب هذا الخلق عن حياة كثير من أولادنا يقول د. زقزوق: الأسباب كثيرة، وفي مقدمتها غياب التربية الإسلامية في البيوت، فكثير من الآباء والأمهات لا يفرقون للأسف بين الحياء والخجل أو ضعف الشخصية، وهم لا يريدون أن يكون أولادهم ضعفاء حتى لا تضيع حقوقهم بين أقرانهم في الشارع أو النادي أو المدرسة أو أي مكان يتلاقى فيه الأطفال أو الشباب، ولذلك يغرسون في أولادهم منذ الصغر جرأة وبجاحة سلوكية تصل بهم فيما بعد إلى البلطجة السلوكية التي نراها في سلوك كثير من شبابنا اليوم.
إلى جانب شعارات الحرية الشخصية الزائفة، فباسم حقوق الإنسان لا يتورع الناس عن فعل الكثير من الأمور التي كان الحياء في السابق يمنعهم من فعلها.. وما أكثر ما يرتكب اليوم من آثام خلقية باسم الحرية الشخصية.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"