«بريكست».. حيرة بريطانيا الأزلية

04:11 صباحا
قراءة 5 دقائق
بهاء محمود


تم تفعيل تعليق البرلمان البريطاني، أول أمس الثلاثاء. على أن يعود في منتصف أكتوبر المقبل، تلك الخطوة التي عدّها الكثير في بريطانيا والعالم انتهاكاً لديمقراطية أعرق برلمانات العالم.
بوريس جونسون رئيس وزراء بريطانيا، الذي تولى خلفاً لتريزا ماي، أراد الانفراد بالقرار السياسي والتاريخي دون ضغوط من أحد، فعلّق عمل البرلمان، على أمل أن يخرج دون اتفاق، إدراكاً منه صعوبة التوصل مع بروكسل على اتفاق جديد. لم تكن خطوة تعليق البرلمان مخالفة قانونية، فهو أمر معتاد وللملكة حق الموافقة على القرار وتفعيله لكن الأمر يتخطى ذلك الشق.
كان المعتاد تعليق البرلمان البريطاني في فترات العطلات الصيفية، وفترات التحضير لمؤتمرات الأحزاب السياسية، فما الجديد إذن؟ ببساطة جاءت الهزائم سريعة ومتلاحقة لجونسون، من خسارته أحد المقاعد لصالح الديمقراطيين الأحرار المؤيدين للبقاء في الاتحاد الأوروبي، إلى قيام تكتل معارض داخل حزبه بقيادة فيليب هاموند وزير المالية السابق، ثم فشل الجولات الأوروبية وجولات المقاطعات البريطانية. من هنا بدا مصير جونسون يحاكي مصير تريزا ماي، لكن العنيد بدأ يهاجم المعارضة ويتعلل بضرورة تنفيذ مطالب الشعب بالخروج، غافلاً عن عمد أن الشعب في استفتاء 2016 لم يصوّت على «بريكست» خسائره مليارات الجنيهات الإسترلينية، لم يصوّت على «بريكست» دون اتفاق يفكك المملكة!.
خطوة تعليق عمل البرلمان بدت وكأنها مسمار في نعش حكومة جونسون الجديدة، وبداية جديدة لتوافق المعارضة وتماسكها على شيء واحد: لا خروج من دون اتفاق. وبالفعل عاد نواب البرلمان بعد انقضاء عطلات الصيف في جلسات عاصفة وسط خيارات محدودة، سحب الثقة من جونسون، أم انتخابات مبكرة أم الرضوخ لأجندة جونسون الغامضة؟

ضربات مبكرة

بدأت الجلسات وجاءت الضربات مبكرة من داخل المحافظين، استقال نائب برلماني وانضم لصفوف المعارضة، ليخسر جونسون الأغلبية داخل مجلس العموم، لذا لا يستطيع جونسون تنفيذ أو تمرير أي قرار بكتلته فقط، مع العلم أن المحافظين لا يزالون جزراً منعزلة. الرهان على قوة جونسون بدت درباً من الوهم والخيال المؤلم لمن انتخب جونسون، في مشهد بدت تريزا ماي ضعيفة، ولا بد من رحيلها، ليتولى رجل قوي. زعيمة المحافظين في الجناح الأسكتلندي استفاقت مؤخراً من الوهم، وأدركت أن جونسون لا يمتلك إلا خطاباً فوضوياً لا يسمن ولا يغني من جوع، لتستقيل هي الأخرى، وتزيد الضغوط على جونسون وتقل قوته. من هنا جاء البديل أو لنقل مسار آخر لمناورة تستنزف المزيد من الوقت، إذ أعلن جونسون رغبته الدعوة لانتخابات مبكرة ثاني أيام عودة البرلمان البريطاني. أي أن المتبقي فقط 13 يوماً للموعد النهائي ل«بريكست». وبالطبع أدركت المعارضة فخ جونسون فأصرت على تمرير قانون يلزم الحكومة بتأجيل «بريكست» لنهاية يناير 2020، إذا لم تتوصل لاتفاق مع بروكسل في 19 أكتوبر.
بدت المقايضة بين الحكومة والمعارضة، توافق الحكومة على مشروع القانون ولا تعطله مقابل موافقة المعارضة على انتخابات مبكرة. سلسلة المفاجآت لم تتوقف ليصوت 21 نائباً من المحافظين على مشروع قانون تأجيل «بريكست»، الأمر الذي أغضب جونسون، الذي أقالهم فوراً من حزبه! ليخسر المزيد من الدعم ولم يعد واقعياً سوى تحالف كبير فقط لا يملك سلطة برلمانية. من جانبها لم تصدق المعارضة وعود جونسون أو بالأحرى احتاطت لنفسها، ولم توافق في نهاية أيام البرلمان على مشروع الانتخابات المبكرة، مما يعني أنه لا انتخابات قبل نوفمبر، أي أن جونسون قانونياً ملزم بالتوصل لاتفاق جديد أو طلب التأجيل، لكنه لا يستطيع تنفيذ «بريكست» من دون اتفاق.
قبل وبعد الجلسة الأخيرة في البرلمان البريطاني، ظل جونسون على عناده مصمماً أنه قادر على عقد اتفاق جديد، وكأن بروكسل من الضعف والهوان الذي سوف تخضع له في جنح من الليل فجأة ودون مقدمات، رافضاً في خطاباته الأخيرة أنه يطلب التأجيل من بروكسل.

ثلاث جزر منعزلة

بعيداً عن منطقية خطاب جونسون وحكومته اليمينية المتطرفة، وبعد موافقة الملكة على مشروع قانون التأجيل، وعدم تعطيله في مجلس اللوردات، يمكننا أن نرى المشهد وكأنه ثلاث جزر منعزلة يعيش في كل منها سكان لا يعرفون بعضهم البعض، ولا يتحدثون اللغة نفسها. الجزيرة الأولى يترأسها جونسون، بلا أنياب، لا حزب يمتلك أغلبية، ولا رصيد إنجاز يذكر للحكومة قصيرة الأجل، ولا دعم خارجياً من بروكسل، فعلام يستند رئيس الجزيرة؟ الإجابة لا شيء. فقط مناورات وغموض وتمسك بالحكم مغلف بحجة باطلة حول ديمقراطية استفتاء 2016، وكأن تعليق عمل البرلمان ليس انتهاكاً صارخاً للديمقراطية. ما هي إذن خيارات جونسون وفرصها؟ أولاً، من طريقة تفكيره، في ظل تمسكه بعدم طلب تأجيل لبريكست، يواصل جونسون الضغط على بروكسل أملاً في كسب أي إنجاز، وفي حالة فشله يلجأ جونسون للمحكمة العليا بحسب الأخبار المسربة لتمرير بريكست دون اتفاق، على أساس أنه تنفيذ لإرادة الشعب بحسب وجهة نظره. وهذا الطريق يبدو مغلقاً لأن المحكمة العليا ذاتها هي من حكمت في نهاية 2017 بإلزام تريزا ماي ضرورة حصولها على موافقة البرلمان على خطوة تخص بريكست، وهو الأمر الذي أطاح بها في النهاية. أما عن السيناريوهات الأخرى فلا تبدو متوافقة مع شخصية جونسون، فهو لن يستقيل من الحكومة التي لطالما حارب كثيراً من أجل الوصول لها، ولا يطلب استفتاء آخر على بريكست. الجزيرة الثانية تسكنها المعارضة بكل طوائفها،حزب العمال، القومي الأسكتلندي، الديمقراطيون الأحرار وغيرهم من المعارضة، بالإضافة للضيوف الجدد من المطرودين من المحافظين. هؤلاء جميعاً متفقون على منع بريكست دون اتفاق، خلافهم حول: إما سحب الثقة من جونسون بعد منتصف أكتوبر، أو من يقود حكومة تسيير أعمال، فضلاً عن عدم إجماعهم على شخص جيرمي كوربين.

جمود بروكسل

الجزيرة الثالثة تبدو فيها بروكسل تراقب من بعيد ولا تحرك ساكناً، وإن نطقت تردد الكلام نفسه «لا اتفاق إلا اتفاق ماي». هذا الجمود مبرر من قبل بروكسل، وإن حمل في طياته توافقاً عاماً على الحرص على بقاء بريطانيا في الاتحاد الأوروبي. هذه الجزيرة يغلب على قيادتها المحور الألماني الفرنسي المختلف أيضاً على إدارة بريكست، ومن وحي فكر ومواقف الثلاث جزر، ثمة مسارات قليلة يلتقون فيها جميعاً، منها أنه لا بريكست في نهاية أكتوبر المقبل، وربما لا بريكست أبداً، في بريطانيا، وربما تكون نهاية حكومة جونسون تاريخية كأقصر الحكومات في تاريخ بريطانيا، فلا انتخابات مبكرة ولا بريكست دون اتفاق، فضلًا عن احتمالية سحب الثقة منه، سواء تولى جيرمي كوربين رئاسة الوزراء أم لا.

* كاتب ومحلل سياسي مصري

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"