مسجد المنصور . . أنموذج لفن العمارة العباسي

دراسات لإعادة تأهيله دينياً وسياحياً
02:07 صباحا
قراءة 4 دقائق

في الربع الأخير من القرن الثامن الميلادي أمر الخليفة أبو جعفر المنصور ببناء مدينة جديدة بالقرب من الرقة البيضاء في سوريا، وأوكل هذه المهمة إلى ابنه المهدي، الذي كلّف المهندس أدهم بن محرز بوضع خطة بناء المدينة، التي أراد لها أن تكون مسورة على غرار بغداد، ووضع كل الإمكانات تحت تصرف ابن محرز لكي تكون قبلة للناظرين .

وعن طريقة بنائها والبدء ببناء جامع المنصور، تحدث الباحث الآثاري محمد العزو قائلاً: من المحتمل أنّ ابن محرز قد اعتمد على نظام بناء المدن في سياقه التاريخي، الذي يقضي بأن تكون المدينة مسوّرة، وداخل الأسوار يقتضي الأمر أنْ يُبنى المسجد الجامع وقصر الإمارة والسوق التجاري، ومن ثمّ تخطيط الشوارع .

فطن ابن محرز إلى أنّ المدينة الجديدة التي كُلف بمهمة بنائها من قبل خليفة المسلمين، تقع على مقربة من حدود الدولة البيزنطية من جهة الشمال، كما أنها تقع على أطراف البادية ذات الطقس الحار والجاف، لذا جاء المخطط متوافقاً مع هذه الحالة البيئية، وقد جاء تشييد مسجد #187;المنصور#171; في #187;الرقة#171; في الفترة الأولى لبناء المدينة، وهو يصنّف من المباني العباسية الأولى، التي حملت سمة العمارة العباسية التي أثرت وتأثرت بالموروث المعماري العالمي الذي سبقها .

وكما أسلفنا سابقاً، فإنّ قُربَ الرافقة #187;الرقة#171; من حدود الدولة البيزنطية، جعل منها مدينة عسكرية، ولذا نجد أنّ أغلب مبانيها بُنيت على شكل قلاع أو حصون، أي أنها منعزلة وسط ساحة، ومنها مسجد #187;المنصور#171; ذو الأبعاد (100*98م)، الذي تقارب مساحته مساحة مسجد بني أمية في #187;دمشق#171; .

ويصف العزو الآثار الباقية من الجامع وتحديد موقعه بقوله: تشكل الأطلال المتبقية اليوم من مسجد #187;المنصور#171; جزءاً يسيراً من المسقط الرئيس للمسجد، الذي لم يبق منه سوى السور الخارجي وواجهة الحرم والمئذنة، التي بنيت في الفترة الزنكية، وفي عام 1161م وأطلال بعض العضادات والمحاريب وبقايا بعض المداخل، التي خضعت جميعها مؤخراً لأعمال ترميمات منهجية . . ويقع المسجد الجامع مع قصر الإمارة المندثر في وسط المدينة القديمة .

حرية الدخول والخروج

وعن الناحية المعمارية يقول: يشير وجود المسجد في ساحة واسعة ومفتوحة، إلى أن المعمار يمتلك الحرية في فتح المداخل والمخارج على حد سواء، حيث نرى زيادة عدد المداخل في الأضلاع الشرقية والغربية والشمالية لتوفير وتسهيل عملية الدخول والخروج من وإلى حرم المسجد، ويشير عالم الآثار الشهير #187;كريزويل#171; في كتابه #187;العمارة الإسلامية#171;، إلى أنّ مسجد #187;المنصور#171; في الرافقة #187;الرقة#171; أثرّ في مجموعة من المساجد الأخرى، التي شيدت في كل من العراق، ومصر، وتونس، وأن تلك المساجد شيدت في فترات تاريخية متقاربة، فنجد أنّ مسجد الرقة شُيد في سنة 155ه 772م، ومسجد سامراء في العراق قد بُني في سنة 221ه 866 م، ومسجد أبي دلف، بُني في سنة 245ه 883م، أما مسجد أحمد بن طولون في مصر فقد بُني في سنة 265ه 913م .

إنّ البيئة فرضت على المهندس المعماري، أنْ يمازج بين أنماط من أشكال الفنون المعمارية، إذ نجده قد استعار بنية سقف المسجد من فن العمارة السورية، حيث جاء هذا السقف على شكل جاملون ومغطى بالآجر الأحمر المحروق بمقاسات كبيرة، أما استعمال مادة اللبن المجفف تحت أشعة الشمس، ومادة الآجر في بناء السور والأقواس والأجزاء المعمارية الأخرى، فهو من نمط العمارتين الرافدية والفارسية .

أقسام المسجد

يُنسب مسجد الرقة تاريخياً إلى أشكال العمارة ذات البيئة الصحراوية، والمساجد التي جاءت بعده، جميعها ذات بيئة صحراوية، كما أنّ مواقعها داخل المدينة متشابهة، فكلها بنيت ضمن ساحات منفصلة مبنية على شكل حصون .

وهذا الواقع تطلب أنْ يخضع هذا المسجد الجامع، وجميع المساجد التي هي على شاكلته، إلى تصاميم تأخذ في الاعتبار سماكة الجدران، وتدعيمها بأبراج ملائمة لامتصاص الضغوط الناتجة من الأعلى، وخشية الانهيار لانعدام إمكانية الربط مع الجوار، الذي يؤدي دوراً كبيراً في استقرار الجدران .

إنّ موقع مسجد الرقة في بيئة صحراوية، أوجب على المعماري أن يفكر في بناء جدران كبيرة، لكي تعمل كعازل حراري لحماية المبنى من الوسط الذي يحيط به، والانفتاح إلى الداخل باتجاه الصحن الرئيس الذي يحتوي على الموضأ، الذي يشكل نقطة مهمة من الناحية المعمارية، كما أنّ الموضأ يؤدي دوراً كبيراً في تلطيف وترطيب الجو الداخلي . وعن أقسام المسجد يقول: يتألف مسقط مسجد المنصور في الرقة من صحن واسع يحيط به الحرم وثلاثة أروقة تقع على الأضلاع الشرقية والشمالية والغربية، كما أنه من المفيد هنا أنْ نذكر أنه لحينه لم نستطع تحديد جهة الأروقة، ولا حتى جهة استناد العضادات وارتصافها، وهذا في الحقيقة راجع إلى عدم الاستمرار في الحفريات الأثرية .

بقي أن نشير إلى أنّ مسجد المنصور في الرقة، يعتبر بحق المدرسة المعمارية الأولى في العصر الذهبي للعرب خلال الفترة العباسية الأولى، وقد انتشر النمط المعماري الفني لهذا المسجد الفريد في أنحاء مختلفة من العالمين العربي والإسلامي آنذاك، وقد قامت المديرية العامة للآثار والمتاحف بترميم سور الجامع الذي يضم عشرين برجاً لها شكل شبه دائري، كما تم ترميم مئذنته، التي شيدت في عام 1160م في عهد نور الدين زنكي، وكذلك تم ترميم المداخل والمخارج والمحاريب .

ويتم حالياً إعداد دراسات هندسية حول إمكانية إعادة تأهيل المسجد ووضعه في الخدمة سياحياً، ودينياً، وأثرياً، من قبل عدد من المتخصصين في الآثار والهندسة المعمارية، علماً أن الآثار المتبقية من المسجد لا تتجاوز 25 في المئة، لكن محافظة الرقة السورية جادة في إرسال عدد من المهندسين والآثاريين إلى مصر وتونس لوضع مخططات أولية للمسجد كما كان في غابر الزمان .

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"