الحرية الشخصية سلاح ذو حدين

معرفة حدودها تحمي الفرد والمجتمع
05:48 صباحا
قراءة 8 دقائق

الحرية الشخصية من الصعب التنازل عنها، لأنها أساس الحياة الكريمة لكنها تتحول إلى كابوس عندما يفصل كل شخص حريته على هواه دون مراعاة لمن يعيشون معه في المجتمع . فما هي الحرية الشخصية وما أبعادها وكيف يستفيد منها الفرد والمجتمع؟ للإجابة عن هذه الأسئلة وغيرها أجرينا هذا التحقيق:

مهند زريق يرى أن الحرية الشخصية هي حرية العقل والفكر لا حرية التفسخ والانحلال كما يعتقد البعض، فالإنسان حر في تفكيره، وبما يمليه عليه عقله وحر في آرائه ومفاهيمه لما يرى من أمور دون أن يمس معتقدات وثوابت الغير . وهو حر في اختياره لعمله وملبسه ومشربه ومأكله دون أن يخالف في ذلك عادات وتقاليد مجتمعه السليمة لا البالية التي يدندن عليها البعض، ويصادرون من الآخرين آراءهم، فحرية الفرد تنتهي عند حرية الآخرين، فلا يعتدى على حرياتهم بحجة أنه حر ولا ينازع في طاعة والديه الواجبة دينياً لجعل ذلك من الحرية، ولا يخالف الأنظمة والقوانين أو ما تعارف عليه المجتمع باعتباره من الحرية .

بهاء أحمد يعتقد أن الحرية الشخصية هي الأعمال التي يقوم بها الفرد لجعل حياته أسعد، ولا يحق لأحد حرمانه منها، ويتابع: حريتي الشخصية تتمثل بالأمور التي تخصني ولا يحق لأحد التحكم بها أو التدخل لحرماني من ممارستها، فلباسي وهواياتي وأفكاري تندرج تحت بند الحرية الشخصية، أنا أفكر وأبحث وأقرر ما أريد، مع مراعاة من حولي، بحيث لا أتعدى على حرياتهم للتمتع بحريتي .

ويضيف: يعرفون القواعد، والقوانين إلا أنهم لا يلتزمون بها، فقوانين السير معروفة ومع هذا فمخالفات السير موجودة، وكذلك قوانين السلامة العامة معروف وما زال مسلسل الإصابات مستمراً، هذا حال الأمور محكمة القواعد، فكيف بالأمور التي تتبع قواعدها لشخص معين كالحرية الشخصية، فكل شخص يعرف القوانين إلا أنه يتجاوزها تحت ذريعة الحرية الشخصية، فما وضعه لنفسه من قوانين فضفاضة ومطاطية تمكنه من التعدي على حريات الآخرين، أما بالنسبة للباس فهو من أساسيات الحرية الشخصية، ويقول المثل كل كما تريد والبس كما يريد الآخرون، وهذا خطأ فادح، فأنا آكل كما أريد واشتهي، وألبس ما أراه مناسباً، أعشق اللون الأصفر وأرتديه، الأمر الذي دفع البعض لتسميتي تويتي أي أني اشبه عصفور الكناري تويتي الشخصية الكرتونية المعروفة، إلا أني لم ولن أعبء بما يقولون، فهذه أمور تخصني ولا أظن أني تعديت على أحد، وباعتقادي لا تكمن المشكلة في كيفية ممارسة حق الحرية الشخصية فقط بل في كيفية تعامل المجتمع مع هذه الحرية، فكثيرون يرون أن في قصة الشعر الغريبة تجاوزاً وكذلك في طريقة المشي وغيرها من الأمور، وهذه الرؤية خاطئة، فمن الممكن أن لا يعجبني منظر شخص ما، إلا أن هذا لا يعطيني الحق في إجباره على تغيير منظره، حريتي الشخصية هنا تتمثل في التعرف عليه ومصادقته من عدمها، أما حرمانه من حرية المنظر فهذا ليس من حقوقي .

ويأتي رأي عصام بو يزن قريب جداً من هذا الرأي، ويقول: حقوقي كفرد في المجتمع لا تخولني فرض أفكاري على غيري، وسماع أحدهم للموسيقا بصوت عال اختراق لحرية الآخرين واعتداء على حقوقهم، حقي أن أقود سيارتي في الشارع لكن ليس من بنود حريتي تعريض حياة الآخرين للخطر، وحقي أن ألبس ما أريد وما يتماشى من الآداب العامة وليس مع الأعراف، وهناك فرق، فالآداب العامة تضمن التصرف السوي السليم فلبس اللباس الفاضح كسر لهذه الآداب، أما العرف الاجتماعي فهو ما يعيب الشاب إن لبس قميصاً أحمر اللون مثلاً، ففي العرف عيب على الشاب أن يرتدي هذا اللون، وهذا ما أعترض عليه، قد لا ألبس اللون الأحمر لكن ليس لأحد الحق بأن يعترض إذا لبسته .

ويرى بويزن أنه ليس من الغريب أن نسمع أحدهم يقول (أنا حر)، إلا أن الغريب هو أن من يقولها لا يعي معناها، ولا يعرف ما تعنيه الحرية الحقة، إلا أنه يطرب لسماع هذه الكلمة، ويشعر باللذة لدى قولها فهي تشعره بالاستقلالية والتفرد .

ياسمين بركات ترى أن مفهوم الحرية يختلف من شخص لآخر تبعاً لمجتمعه وبيئته ومعتقداته، وتضيف: تجد مجموعة تبنت مفهوم الحرية الشخصية التابع للمجتمع الغربي واختارت منها الأفكار الأسوأ، ومجموعة أخرى وضعت مفاهيمها الخاصة التي تتناسب مع رغباتها الخاصة فتحلل لنفسها ما حرمته على غيرها، أما عن مفهومي الخاص والذي لم يسعفني في مجتمعنا الشرقي فهو باختصار شديد الحفاظ على خصوصيتي واستقلاليتي مع مراعاة عدم التعدي حدود الغير، وفيما يتعلق بإدراك الشخص لتجاوزه حدود الغير فهذا يرجع تبعاً لبيئته ونشأته ومبادئه، فعلياً ربما نستطيع توجيه الشخص الحر بأن يمارس حريته دون المساس بحقوق الآخرين من خلال مخاطبته بنفس مفاهيمه التي يجد فيها تعدياً على حريته الشخصية .

الإعلامية والباحثة سهير علي أومري عرفت الحرية الشخصية بالقول: هي فعلُ ما لا يضر بالآخرين، ومتى كانت ممارسات الإنسان تسبب ضرراً مادياً أو معنوياً لغيره يكون تجاوز حدوده وما يحق له إلى ما لا يحق، فمثلاً من حقنا أن نستمع إلى المذياع، ولكن ليس من حقنا أن نقلق راحة الجوار بصوته، وهنا أمر هام يجب الوقوف عنده هو أن مفهوم الضرر في تعريف الحرية الشخصية يختلف تفسيره بين شخص وآخر، فكل فرد يعطي الضرر تعريفاً يتوافق مع منظومته هو، الفكرية والثقافية والنفسية وحتى الاجتماعية بمعنى آخر صار كل فرد يحدد ما يضر بالآخرين قياساَ على ما يضره هو، عندها صار من الطبيعي أن تسمع من شخص يرفع صوت المذياع عالياً يقول: أنا حر .

وترى أومري أن مفهوم الضرر يختلف من شخص لآخر فكيف يتفق مجتمع ما على ماهية الضرر طالما أن كل شخص يحدده وفق منظومته هو؟ عن هذه السؤال أجابتنا: هنا تأتي القوانين والأنظمة في كل مجتمع لتضبط مفهوم الضرر، فعلى سبيل المثال: ضبطَ القانون حق غير المدخنين عندما صدرت قوانين صارمة تحد من التدخين، وتحدد طبيعة الأماكن التي يمكن التدخين فيها . وقبل هذه القوانين كان من الممكن أن يرى المدخن أن تدخينه حرية شخصية ولا تمس بأحد، وأن من حقه أن يمارس حريته، وخاصة إن كان لا يستطيع تحمل عدم التدخين فترة طويلة، أما في حال غياب الأنظمة والقوانين الضابطة لمفهوم الضرر وماهيته، تكون الأعراف العامة في كل مجتمع هي الناظمة والضابطة لمفهوم الضرر، فما شاع عرفاً أنه غير مستحسن في مجتمع ما هو الضرر، فمثلاً من العرف العام في رمضان في مجتمعاتنا العربية عدم المجاهرة بالإفطار حتى إن غير المسلمين يلتزمون بأعرافنا ولا يجاهرون بإفطارهم لأن العرف ينص على ذلك، وتبقى المجاهرة بالإفطار في نهار رمضان مثلاً استهانة بمشاعر الصائمين، ومن المفيد هنا أن أقول إن الأعراف تحددها المنظومة الفكرية والثقافية للغالبية العامة في كل مجتمع فمثلاً وهنا تبرز أهمية مراعاة الأقلية للعرف الذي تحدده الأغلبية .

وترى أومري أن كل ما يتعلق بحياة الإنسان من ملبس ومأكل وهوايات حرية شخصية ما لم يكن في ممارستها ضرر بالآخرين، وتضيف قائلة: ماذا لو كانت هواية شخص ما الرسم على الجدران هل يحق له مثلاً أن يرسم على جدار منزل جاره؟ القوانين والأعراف تضبط كل ذلك وعلى سبيل المثال شاع مؤخراً ما قامت به وزارة الخارجية البريطانية عندما نصحت رعاياها الراغبين بالسفر إلى أي من الدول الإسلامية خلال شهر رمضان بشأن بعض القواعد الخاصة باعتباره شهراً له وضع ديني خاص عند المسلمين . وحثتهم على الحرص في السلوكيات والملابس التي قد تسبب إساءة لمشاعره المسلمين، هنا يتبدى جلياً كيف أن على الأقلية الحد من ممارسة حرياتها وفق ما تنص عليه أعراف الأغلبية، فالخروج عن العادات والأعراف التي حددتها البيئات العربية في اللباس يسبب ضرراً بالتأكيد، ولا ننسى أن هذه الأعراف والعادات هي نتاج منظومة فكرية تكونت عبر التاريخ، وهذه المنظومة كان وما يزال من أهم أسسها التعاليم الإسلامية .

وتشير الأومري إلى أن عملية توجيه مسيئي استخدام الحرية الشخصية مسؤولية كبيرة يتحملها المجتمع بأسره بدءاً من الأسرة وانتهاء بالمؤسسات الإعلامية على اختلاف أنواعها مروراً بالمدرسة والجامعات والجمعيات الأهلية والمدنية، وتقول: أشدد هنا على دور وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمطبوعة لأنها ذات تأثير قوي وفعال في المجتمع، ويمكن من خلالها تكوين الوعي الجمعي وترسيخه وخاصة الرسائل غير المباشرة التي يقدمها الإعلام وتترسخ لدى المجتمع على نحو تصير ثابتة في اللاوعي، فتتشكل لدى أفراده قاعدة معرفية تدفعهم إلى الفعل أو اللافعل وفق ما ترسخ لديهم من ثوابت تحدد لهم مفهوم الحرية وكيفية ممارستها . أما بالنسبة لكيفية تصرفنا مع من يخل بالآداب العامة فأقول بالتأكيد التصرف ورد الفعل يختلف بحسب حجم الضرر الذي تسببه هذه المخالفة، وهل هي مخالفة للذوقيات العامة أو للأعراف أو للقوانين والأنظمة؟ فردود الفعل يمكن أن تتراوح بين التوجيه والتنبيه على اعتبار أن المخالف غير قاصد لهذا الضرر وبين اللجوء لأجهزة السلطة لكف هذا الضرر ومنع تكراره، ولكن برأيي تبقى الوقاية خير من العلاج وتوعية المواطنين بمعنى الحرية الشخصية وضوابطها أكثر فائدة، أما في ما يخص بعض الهوايات التي لا تخل بأعراف المجتمع وقيمه ومبادئه بل تسبب ضرراً من نوع آخر كالإزعاجات كأن تسبب ضجيجاً أو تحتاج إلى أدوات ومساحات معينة تتجاوز حدود المكان الذي يعيش فيه الشخص، وكانت هذه الهوايات مفيدة . يمكن في هذه الحالة العمل على تهيئة أماكن مخصصة لممارستها، بجمع الأشخاص الذين لهم الهواية نفسها وتأمين مكان مناسب لهم، ويمكن أن يتم ذلك من خلال دعم مؤسسات اجتماعية ومدنية معينة في المجتمع ورعايتها لهذا النوع من التنمية والتي يمكن أن تكون ربحية .

لكل مرحلة عمرية حريتها

عمار رمضان يرى أن الحرية الشخصية تتعلق بالعمر، والعمر هو الذي يحدد أبعادها، فحرية الطفل قد تكون معدومة لأنه غير قادر على معرفة ما له وما عليه، وتتمثل حريته الشخصية في اختيار لون ثيابه وليس شكلها، ولون حقيبته المدرسية وما على شاكلة هذه الأمور، وفي سن المراهقة تتوسع مجالات الحرية لديه، فهو سيبدأ بالتفكير في قصات شعره وثيابه واختيار اصدقائه بالرغم من عدم وصوله حالة النضج الكامل، الأمر الذي يستوجب على الأهل بذل الكثير من الجهد في عملية مراقبة الابن المراهق وتوجيهه بالشكل الأمثل بحيث لا يولد لديه ردة فعل عكسية تؤدي إلى نتائج خطيرة، فكثير من المراهقين توجهوا إلى التدخين كنوع من الاعتراض على ممانعة الأهل لهذا الفعل، فالمراهق يعتقد أنه أصبح قادراً على معرفة ما له وما عليه، هذا فيما يخص مرحلة المراهقة، أما مرحلة النضج الكامل وهي المرحلة التي يكون فيها الفرد تجاوز الثامنة عشر من العمر، فهي التي تمثل الحرية الشخصية الكاملة، وفي هذه المرحلة لن تجدي المراقبة والتوجيه شيئاً، إنما ستجنى ثمار ما تم زرعه في السنوات الماضية، فمن ربى ابنه على احترام الغير ومراعاة مشاعرهم فسيجني ثمرة ناضجة زكية الرائحة بهية اللون لذيذة الطعم، أما من أساء التربية فإنه سيكون رفد المجتمع بثمرة أصابها التعفن ستؤذي من حولها .

ويؤكد رمضان أن حقوق الآخرين خط أحمر لا يجب تجاوزه بحجة الحرية الشخصية حتى لو كانت هذه الحرية تتمثل في الملبس، ويتابع بالقول: كثيرون يعتقدون أن لباسهم أحد مسلمات الحرية الشخصية، فيرتدون ما يشاؤون بغض النظر عن رأي المجتمع، وهم هنا تعدوا الحرية الشخصية، أما فيما يخص التدخين مثلاً فهو تعد سافر على الحريات .

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"