نجيب محفوظ في ذكراه التاسعة.. الطريق يؤدي إلى القصة

الرواية ليست منتهى الطلب
23:55 مساء
قراءة 5 دقائق
الشارقة محمد إسماعيل زاهر:
«هذه نهاية الطريق، فقال محتجاً: ولكن الدنيا لا تنتهي بانتهاء الموسكي»، هذا الجزء من حوار في رواية «زقاق المدق» لنجيب محفوظ ربما يلخص الكثير من الأفكار التي عاش صاحب نوبل يكتب عنها في رواياته وقصصه القصيرة، فالمكان عند محفوظ يفضي إلى فضاءات عدة، لا يمكن تحديده أو حصره في أبعاد معروفة وقاطعة، فالطريق لا ينتهي أبداً سواء تعلق الأمر بالفتاة المتطلعة حميدة في الحوار السابق أو بمحفوظ نفسه الذي ظل يجرب في الرواية حتى وصل إلى أشكال سردية عصية على التصنيف كما هو الحال في «أصداء السيرة الذاتية» و«أحلام فترة النقاهة»، أو حتى بنا ونحن نقرأ محفوظ الذي لم «يُقرأ» كما ينبغي حتى الآن.

في ذكراه التاسعة التي حلت أمس يبدو الطريق مفتوحاً على عدة أسئلة كثيرة بخصوص نجيب محفوظ، يقع شكل الرواية في القلب منها، ذلك الشكل الفني الذي أسس له أديب نوبل على مدار عقود، خاصة أننا نعيش كرنفال الرواية الآن، وخاصة مرة أخرى أن معظم من يتحدث عن «زمن» الرواية يعود إلى نوبل محفوظ بوصفها الداعمة لهذا الزمن والركيزة التي تمنحه شرعية في الحالة العربية.

في هذا السياق يبدو الخروج عن المعروف والمكرر تمرداً على فضاء هذا الزمن، والأهم تمرداً على ما ترسخ عن نجيب محفوظ في النقد المعتمد والكتابات المكرسة.
لم تكن الرواية بشكلها الكلاسيكي، أو رواية القرن التاسع عشر الأوروبية بسماتها التقليدية، هي نهاية الطريق بالنسبة لمحفوظ، بدأ نجيب محفوظ بكتابة القصة القصيرة في مجموعة «همس الجنون»، 1938، وانتهى بكتابة شكل سردي قصصي جديد في «أحلام مدة النقاهة»، 2004، وبين التاريخين ووفق تقارير نوبل والكتابات الرائجة والصورة الذهنية الراسخة لا يمكن التخلص من أثر «الثلاثية» و«أولاد حارتنا» و«الحرافيش»، عند الكتابة أو الحديث عن محفوظ، وربما يكون هذا التوجه ما عطل قراءات أخرى لفن القصة القصيرة عند محفوظ، ويضاف إلى ذلك ما رسخه النقد في خمسينات القرن الماضي من سمات وتوجهات معينة بخصوص القصة القصيرة، حيث كانت تبدو عودة محفوظ إلى كتابة هذا الفن في «دنيا الله» في عام 1962 كنوع من الفانتازيا بالنسبة لقراء ومحبي الرجل، ولكن منذ هذه العودة كتب أديبنا 18 مجموعة قصصية، ومنذ رواية «اللص والكلاب» في عام 1961 لم يكتب رواية تشعرك من حيث الحجم والأجواء بمناخات رواياته السابقة، حيث ذلك البناء الجزل الفخم الذي يأخذ في الاعتبار تقنيات وآليات الرواية بشكلها القديم أو كما تجلى لديه في «زقاق المدق»،1947، أو «خان الخليلي»، 1946، أو الثلاثية، 1956و1957، كانت أعماله مثل: «اللص والكلاب» و«االسمان والخريف»، 1962، و«الطريق»، 1964، و«الشحاذ»،1965، و«ثرثرة فوق النيل»، 1966 أقرب إلى شكل روائي جديد آنذاك: رواية قصيرة أو نوفيلا.

اعتبر الناقد الراحل غالي شكري أن «الحرافيش»، 1977، آخر رواية كتبها نجيب محفوظ، وفي حوار متخيل له مع محفوظ نشره في مقال في ثمانينات القرن الماضي ذهب شكري إلى أن انقطاع محفوظ عن كتابة الرواية، برغم عدة روايات صادرة لأديبنا في هذه الحقبة، يعود إلى مشاكل في البصر، برغم أيضاً اهتمام الرجل بكتابة القصة في عز تألقه في ستينات القرن العشرين، وتنبأ شكري لمحفوظ وقتها بأن يكتب «قصصاً قصيرة جداً». وهو الأمر ذاته الذي ذهب إليه يوسف إدريس عندما قال إن محفوظ لو لم يكتب سوى «الحرافيش» لاستحق نوبل، أي أن قصص محفوظ، فضلاً عن رواياته الأخرى، لم تكن مرئية لكاتب القصة الأشهر وحتى في الجامعة كانت مجموعات مثل «الجريمة» و«خمارة القط الأسود».. إلخ تدرس بوصفها تدريباً لدارس أدب محفوظ على قراءة الرمز في رواياته: «الطريق» و«السمان والخريف» و«ميرامار» وغيرها مما يطلق عليه المرحلة الفلسفية في أدب نجيب محفوظ، تلك المرحلة التي استغرق فيها حسن حنفي في قراءة ظاهراتية لها تقتصر على الرواية وحسب. ويذكر ريشار جاكمون في كتابه اللافت «بين كتبه وكتب» أن روايات محفوظ المترجمة إلى اللغات الأخرى زينت برسومات تأخذ لب القارئ الغربي وتضرب على وتر الاستشراق، هي المناخات التي تركز عن حق على موهبة أديبنا الروائية ولكنها تدور في طريق مغلق لا يؤدي إلى آخر.

القارئ لمجموعات نجيب محفوظ القصصية لابد أنه لا ينسى أبداً الحكاء في بداية قصة «زعبلاوي» الذي يؤكد فيه ضرورة العثور على الشيخ زعبلاوي «اقتنعت أخيراً بأن عليّ أن أجد الشيخ زعبلاوي»، وهي القصة التي تختزل الكثير من الأفكار التي كتبها محفوظ في عدة روايات، أو تشريحه المبهر لفئات ووجوه من المجتمع في عدة صفحات في قصة «تحت المظلة»، أو أحاديث ومقولات الشيخ عبد ربه التائه في دوائر مفتوحة على بعضها البعض في «أصداء السيرة الذاتية»، أو الحوارات المكثفة في بعض قصص «خمارة القط الأسود»، أو التنبؤ المشرع على مستقبل المجموع أو مستقبل الفرد في «أحلام مدة النقاهة».

يقول محفوظ في الحلم رقم 100، وللرقم دلالته: «هذه محكمة، وهذه منضدة يجلس عليها قاض واحد، وهذا موضع الاتهام يجلس فيه نفر من الزعماء وهذه قاعة الجلسة، حيث جلست أنا متشوقاً لمعرفة المسؤول عما حاق بنا، ولكني أحبطت عندما دار الحديث بين القاضي والزعماء بلغة لم أسمعها من قبل حتى اعتدل القاضي في جلسته استعداداً لإعلان الحكم باللغة العربية فاستدرت للأمام، ولكن القاضي أشار إليّ أنا ونطق بحكم الإعدام، فصرخت منبهاً إياه بأنني خارج القضية وإني جئت بمحض اختياري لأكون مجرد متفرج، ولكن لم يعبأ أحد بصراخي».

«المسؤول عما حاق بنا» سؤال يتكرر في كل أعمال محفوظ، تردي الأوضاع الاجتماعية وارتباطنا بأنماط من التفكير عافها الزمن قالها الرجل في روايات عدة، ولكن نوعاً من النقد الرائج المصحوب بفتنة الاستشراق لم يفهم الرسالة كما ينبغي، نموذج «الحرافيش»، فتوارى الرجل خلف رموز أكثر تكثيفاً في القصة، وأنهى مشواره الأدبي في شكل سردي مختلف هو للقصة أقرب.
القصة القصيرة في أدب نجيب محفوظ لم تُقرأ، لأسباب تتعلق بوقت إنتاجها وأسباب أخرى تتعلق بمزاجنا الثقافي الراهن، ولكن أسئلة من قبيل: لماذا كتب الرجل 19 مجموعة قصصية؟ ويبدو الرقم متجاوزاً لأعمال مشاهير كتاب القصة الآخرين، ولماذا تبدو روايات شهيرة مثل «المرايا» و«ليالي ألف ليلة» وحتى «الحرافيش» مكتوبة بنفس أقرب للقصة، ولماذا استمر الرجل في كتابة القصة برغم عدم الترحيب المضمر بها؟ وإلى ماذا تؤشر دائرة مشواره الأدبي التي بدأت وانتهت بكتابة القصة؟ وما الذي ود قوله في مئات القصص وهو يختلف بالتأكيد عما طرحه في رواياته؟ وكلها أسئلة مشروعة في ذكرى محفوظ، فالأدب لا ينتهي عند الرواية أو القصة بشكلها الرائج لو كنا أدركنا درس محفوظ الأجمل والأبقى.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"