استعادت الشم بعد 37 عاماً

13:16 مساء
قراءة 5 دقائق

مثل سائر الجدات، تترقب جوون بلايثي بلهفة شديدة، ولادة حفيدها . لكنها لا تتطلع لأول ابتسامة أو أول احتضان أو حتى أولى خطوات حفيدها، بل لشيء مختلف تماماً، السيدة بلايثي تتوق لشم رائحة حفيدها ذلك الخليط من رائحة المولود، والبودرة والصابون .

وتقول جوون التي تعيش في مقاطعة نورفولك بالمملكة المتحدة: أترقب وأعد الأيام المتبقية، لا شيء يماثل روعة رائحة المولود الجديد .

لدى جوون سبب خاص بها يجعلها تترقب الاستمتاع بهذه الرائحة المميزة . فقد أصيبت منذ 37 عاماً بالتهاب مزمن في الجيوب الأنفية فقدت على إثره حاسة الشم تماماً، وبعد خضوعها مؤخراً لعملية جراحية في العيادة الوحيدة المتخصصة في الشم والتذوق في إنجلترا، تمكنت جوون من استعادة هذه الحاسة التي ظلت غائبة عنها 37 عاماً .

وتقول جوون: إذا اختبر الناس ما عانيت منه، ولو لشهر واحد، سيدركون مدى الفرق الذي يمكن أن يحدثه فقدان حاسة الشم لحياتهم . عدم المقدرة على الشم يعني تفويت كثير من ضرورات الحياة .

ويقول كارل فيلبوت استشاري أمراض الأنف والأذن والحنجرة في مستشفى جامعة جيمس باجيت بنورفولك إن فقدان حاسة الشم الذي يعرف طبياً بأنوسميا Anosmia يصيب في المملكة المتحدة على سبيل المثال نحو 5% من السكان، ومن يصابون به بدرجات متفاوتة أخف ضرراً قد تصل نسبتهم لنحو 11% .

وتعمل حاسة الشم عندما نستنشق جزيئات من مواد مثل البن، وهي تحفز أيضاً بمضغ الطعام، عبر قناة تربط مؤخرة الحنجرة بالأنف .

ومن ثم تصطدم هذه الجزيئات بخلايا استشعارية متخصصة أو ناقلات عصبية في سقف الأنف، ترسل إشارة لمنطقة الشم في الدماغ، التي تعرف بقشرة الدماغ الأولية .

عندما نفقد حاسة الشم بسبب تعرضنا لنزلة برد يحول تكدس واحتقان الأنف دون مرور الهواء لأعلى الأنف، ويمنع انتقال المواد الجزيئية الصغيرة نحو أعلى فتحة الأنف .

هذا المنع مؤقت، بيد أن الضرر الذي يحدث لخلايا الإحساس والاستشعار أو لمنطقة الشم في الدماغ يمكن أن يتسبب بفقدان نهائي لحاسة الشم . ويقول الدكتور فيلبوت: أسباب فقدان حاسة الشم يمكن أن تشمل إصابة الرأس، أو الإصابة بأنماط نادرة من أمراض باركينسون أو الزهايمر . لكنها في الغالب تحدث نتيجة لعوامل طبيعية .

وتشمل هذه العوامل، نزلات البرد الشائعة في الحالات الأكثر تطرفاً، قد يدمر الفيروس خلايا الإحساس في بطانة الأنف الناعمة . إضافة لالتهابات الجيوب الأنفية المزمنة، أو التهاب الأنف .

الجيوب الأنفية هي أحياز أو تجاويف صغيرة توجد على جانبي الأنفين خلف العيون، وعظام الوجنتين ومقدمة الرأس . وفي حالة الإصابة بالتهاب الجيوب الأنفية المزمن، يكون فقدان حاسة الشم مرتبطاً إما بالبوليبات نمو غير طبيعي لأنسجة يحدث بسبب الالتهاب ويسد مجاري الهواء، أو بسبب التهاب طويل المدى يتلف خلايا الإحساس .

وحاسة الشم ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالتذوق، ولذلك يؤثر فقدان حاسة الشم كثيراً في حاسة التذوق .

ويقول الدكتور أندرو ماكومبي استشاري جراحة الأنف والأذن والحنجرة بالمملكة المتحدة: يتلقى طلبة الطب تدريباً بسيطاً جداً على أمراض ومشاكل الأنف والأذن والحنجرة، بالرغم من أنها تشكل 25% من اشغالات عيادات الأطباء .

وهذا يعني أنهم قد لا يولون فقدان حاسة الشم إهتماماً كبيراً ذ أو يعتقدون أنهم لا يستطيعون فعل شيء حيالها -وفي الأغلب لا يدرك الأطباء المبتدئين أن المرضى يمكن أن يعانوا اكتئاباً حاداً مشكلات معنوية بسبب التأثير الضار الذي يسببه فقدان هذه الحاسة في حياتهم .

وحتى إذا تم تحويل المرضى لإستشاري أنف وأذن وحنجرة، يكون منع إنسداد الأنف، محور الاهتمام، وإذا لم تعد حاسة الشم، لا تلقى هذه المشكلة الاهتمام اللائق .

ويمكن وضع حلول لهذه المشكلة بتوسيع تخصص استشاريي الأنف والأذن والحنجرة، بحيث يركز البعض منهم على مشاكل الأنف تحديداً .

وفي ذات الوقت يتوجب على المرضى أن يتخذوا التدابير الاحترازية اللازمة، ويعملوا على توعية الأطباء وتنبيههم بالأثر الضار لفقدان حاسة الشم، ويتأكدوا من إحالتهم لطبيب مختص . وفي هذا السياق تعد حالة جوون مثالاً على النوع الذي يعتقد كثيرين أنه لا يعالج .

في طفولتها كانت جوون تعاني دائماً تكدس واحتقان أنفها ومن ضغط في تجاويفها الأنفية تحت وجناتها وأعينها .

وفي بديات بلوغها سن ال 20 أصيبت ببوليبات، ونصحها الأطباء باستخدام البخاخات الأنفية يومياً، بيد أن الاحتقان ساء وعندما بلغت أواخر العشرينات من عمرها باتت لا تقوى على التنفس أو الشم عبر أنفها .

وتقول جوون: لم تعد الروائح المثيرة مثل رائحة الملابس المغسولة، ورائحة القهوة أو الخبز، تعني لي شيئاً . ولم أعد أتذوق الطعام الذي بات مذاقه بالنسبة لي مجرد خرقة أو نسيج .

الأطباء وصفوا لها جرعات قصيرة الأمد من ستيرويدات قوية . وعندما لم يجد ذلك، خضعت لعملية استئصال السليلة وهي عملية تستغرق 30 دقيقة وتجرى تحت تخدير عام وتستهدف إزالة البوليبات، التي حين قرر الأطباء إجراء هذه العملية لجوون، كانت تسد مجاري الهواء في أنفها تماماً .

وتقول: بدلاً من الاستيقاظ على وقع تمكني من التنفس بشكل أفضل، حدث أمر مغاير تماماً، فقد أخفقت الحاسة في العودة .

بدون حاسة الشم أو التذوق تفقد الحياة لونها . وبالنسبة لي بات الطهي خالياً من أي متعة . وأصبحت البستنة متعة بصرية فحسب، فقد ضاعت كل الروائح الرائعة للورود ونباتات الخزامى والنباتات والأزهار الأخرى .

وعلى مدار الأعوام اللاحقة، تلقت 15كورس ستيرويد وخضعت لعمليتي استئصال بوليبات، بدون جدوى .

وتقول: في النهاية، ومنذ نحو 10 أعوام قال لي طبيبي إنه ينبغي عليّ أن أتماشى مع حقيقة عدم مقدرتي على التمتع بحاستي الشم والتذوق مرة أخرى . وبالطبع وجدت صعوبة بالغة في تحمل وتقبل هذا الواقع .

ثم جاءت السنة الماضية، وفيها طالعت جوون مقالاً يتعلق بالعيادة الجديدة وطالبت بإحالتها عليها . وبعد استشارة أولية في 2011 خضعت لفحص بالأشعة فوق الصوتية أظهر إنسداد كل جيوبها الأنفية .

ويقول الدكتور فيلبوت: في بعض الحالات قد يكون العلاج بكورس ستيرويدات لتقليل الالتهاب وبخاخ أنف أوإجراء عملية شطف كافياً للإسهام في حل الإشكالية، بيد أن العملية الجراحية هي التي تحدث الفرق فعلاً . مع الأخذ في الاعتبار تفاوت هذه العمليات .

فلعلاج البوليبات - على سبيل المثال - نستخدم ما يعرف بالجراحة المجهرية للجيوب بمساعدة الكمبيوتر، وهي أكثر تعقيداً من الجراحة التقليدية التي تستغرق 30 دقيقة والتي تزيل البوليبات من الأنف نفسه .

ويضيف الدكتور فيلبوت قائلاً: هذه العملية التي يمكن أن تستغرق ما يصل ل3 ساعات، تشتمل على تسليك جيوب المريض، وغسلها بمحلول مضاد حيوي ومن ثم إزالة البوليبات .

ومن خلال خبرتي في العيادة الجديدة، يمكن - بدرجات متفاوتة - الإسهام في معالجة 50% من حالات فقدان حاسة الشم . ومنذ افتتاحنا وبدء العمل في العيادة في أكتوبر/تشرين الأول 2010 أعنا أكثر من 200 مريض على إستعادة بعض - أو كل - حاسة الشم أو التذوق التي فقدها المرضى .

وعندما خضعت جوون للعملية الجراحية في السنة الماضية، قال لها الأطباء إن تنفسها سيتحسن، لكنهم لن يضمنوا عودة حاسة الشم . ولكن بعد مرور أسبوع على إجرائها للعملية، حدث ما يشبه المعجزة كما تقول جوون : كنت أعصر ليمونة وبدون أي سابق إنذار أحسست فجأة بتلك الرائحة الحادة والحمضية . وعلى الفور انخرطت في نوبة بكاء حادة .

وبعدها أشتممت رائحة بن ثم جل إستحمام، ثم مخبوزات وبسكويتاً في الفرن، لقد تمكنت من شم كل هذه الروائح لأول مرة منذ عقود عدة . ومع تحسن حاسة الشم، تحسنت حاسة التذوق أيضاً .

قال لي الأطباء: إن البوليبات يمكن أن تعود مرة أخرى، لكنني الأن في وضع أفضل كثيراً يمكنني من تلقي العلاج فوراً . حياتي باتت متعة حقيقية .

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"