لا تحليل ولا تحريم إلاّ بنص صريح

سلطة تحديدهما في يد الخالق رحمة بعباده
04:16 صباحا
قراءة 7 دقائق
اتبع القرآن الكريم فلسفة واضحة في التعامل مع الحلال والحرام، ليعلم الناس أن الأحكام الشرعية هدفها مصلحة الإنسان، فكل ما فيه مصلحة حقيقية للإنسان، أباحه القرآن وحث عليه، وكل ما فيه ضرر حرّمه وحذر منه.. ولذلك جاءت كل أحكامه عادلة ومنصفة وموضوعية، ومساحة الأحكام التي لم ينص عليها والتي يطلق عليها العلماء (الأحكام المتجددة) تركها من دون نص لتتغير وفق ظروف وتطورات الحياة، ليؤكد أن الإسلام دين يتسم بالمرونة وتدور معظم أحكامه الشرعية مع مصلحة الإنسان وجوداً وعدماً.
وقد وضع القرآن الكريم خطوطاً فاصلة بين الحلال والحرام حتى لا تختلط الأمور على الإنسان، ويفقد القدرة على التمييز بين المباح والمحظور والنافع والضار.
يقول د. حامد أبو طالب، أستاذ الشريعة الإسلامية بجامعة الأزهر وعضو مجمع البحوث الإسلامية: القرآن الكريم يحتوي على العديد من الأحكام الشرعية التي تتناول الحلال والحرام، وكل أحكامه منطقية وتجسد المصداقية والتوازن والاعتدال الذي تتميز به شريعة الإسلام، فلا حرام إلا ما ورد نص صحيح صريح بتحريمه، ولذلك ضاقت دائرة المحرمات في الإسلام واتسعت دائرة الحلال اتساعاً كبيراً، فالنصوص الصحيحة الصريحة التي جاءت بالتحريم قليلة جداً، والأمر الذي لم يأت نص بحلّه أو حرمته؛ باقٍ على أصل الإباحة وفي دائرة العفو الإلهي.. وهنا يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: «ما أحل الله في كتابه فهو حلال، وما حرم فهو حرام، وما سكت عنه فهو عفو، فأقبلوا من الله بعافيته فإن الله لم يكن لينسى شيئاً» وتلا صلوات الله وسلامه عليه قول الحق سبحانه: «وما كان ربك نسيّاً».
وقد سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن السمن والجبن فقال: «الحلال ما أحل الله في كتابه والحرام ما حرم الله في كتابه، وما سكت عنه فهو مما عفا لكم» فلم يشأ عليه الصلاة والسلام أن يجيب السائلين عن هذه الأمور، بل أحالهم إلى قاعدة يعتمدون عليها في معرفة الحلال والحرام، ويكفي أن يعرفوا ما حرّم الله فيكون ما عداه حلالاً طيباً.
وقال صلى الله عليه وسلم: «إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها، وحد حدوداً فلا تعتدوها، وحرم أشياء فلا تنتهكوها، وسكت عن أشياء رحمة بكم غير نسيان فلا تبحثوا عنها».

لا وصاية على الشرع

ويضيف د. أبو طالب: إن سلطة التحليل والتحريم في يد الخالق سبحانه، فهو الذي يحلل ويحرم، فلا وصاية لأحد مهما كان علمه وفكره وقدراته العقلية على شرع الله، والذي يحلل ويحرم هو الخالق عز وجل، ولذلك لا يوجد أحد من البشر يملك تحريم شيء تحريماً مؤبداً على عباد الله، ومن يفعل ذلك فهو يتجاوز حدّه ويعتدى على حق الخالق ويستحق العقاب واللعنة.
ويمضي د. أبو طالب قائلاً: من المهم أن يدرك كل الناس أن سلطة التحليل والتحريم في الإسلام في يد الله وحده، والعلماء والفقهاء المتخصصون في أمور الدين والعالمون بدقائق وأسرار الأحكام الشرعية، يدركون هذه الحقيقة ولا يجرؤ واحد منهم على تحريم أمر أباحه الله ورسوله، كما لا يملك أحد منهم أن يحلل أمراً حرّمته شريعة الإسلام، وهذه إحدى خصائص التميز والموضوعية في الشريعة الإسلامية التي تستند إلى مصدرين أساسيين هما القرآن الكريم والسنة النبوية الصحيحة.. وذلك على عكس الشرائع السابقة، التي كان التحليل والتحريم فيها في أيدي الأحبار والرهبان، وقد نعى القرآن الكريم سلوك أهل الكتاب الذين وضعوا سلطة التحليل والتحريم في أيدي أحبارهم ورهبانهم.

«وما ينطق عن الهوى»

ويقول د. محمد نبيل غنايم أستاذ الشريعة الإسلامية بجامعة القاهرة: لقد نعى القرآن الكريم سلوك المشركين الذين حرموا وحللوا بغير إذن من الله فقال عز وجل: «قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراماً وحلالاً قل آلله أذن لكم، أم على الله تفترون».. وقال سبحانه: «ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب. إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون».
وهنا يوضح الحق سبحانه في كتابه المجيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يحلل ولا يحرم من عنده فكل ما ورد على لسان رسوله في أمر الحلال والحرام هو وحي من الله، يقول الحق سبحانه: «وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى»، وإذا كان هذا هو شأن رسول الله وهو الذي اصطفاه الله من عباده ليحمله مسؤولية تبليغ رسالة الإسلام؛ فإن مهمة علماء الإسلام لا تعدو أن تكون بيان الأحكام الشرعية للناس، ورغم تبحر علماء الأمة وفقهائها وقدرتهم الفائقة على الاجتهاد واستنباط الأحكام الشرعية إلا أن أحداً منهم لم يجرؤ على أن يصدر حكماً شرعياً بحل أمر أو تحريمه من دون وجود نص صريح بالتحليل أو التحريم في كتاب الله وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام.. بل إن بعض هؤلاء الفقهاء العظام كانوا يهربون من الفتيا ويحيل بعضهم على بعض خشية أن يقعوا من دون قصد في تحليل حرام أو تحريم حلال.
وهذه رسالة للمتطرفين والتكفيريين الذين يتجرؤون على إصدار أحكام شرعية لا علاقة لها بالشرع من قريب أو بعيد وهم بحكم جهلهم يحرمون كثيرا مما حلله الله ورسوله.

لا تزمت في الإسلام

هلك المتنطعون واتساقا مع إدانة القرآن الكريم لسلوك هؤلاء الذين يحرمون ويحللون من دون سند من نصوص الشرع الحكيم، اختص رسول الله صلى الله عليه وسلم المحرمين، بالوعيد بعقاب الله عز وجل، لما في التحريم من تضييق على الناس، وتشجيع للمتنطعين في الدين، فقال في حديثه الصحيح: «ألا هلك المتنطعون، ألا هلك المتنطعون»، وقال: «بعثت بالحنيفية السمحة».. وعندما ظهر بين أفراد المسلمين في المدينة المنورة من يميل إلى التشدد والتزمت وتحريم الطيبات على نفسه، أنزل الله تعالى من الآيات المحكمة ما يوقفهم عند حدود الله، ويردهم إلى صراط الإسلام المستقيم فقال سبحانه: «يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا، إن الله لا يحب المعتدين. وكلوا مما رزقكم الله حلالاً طيباً واتقوا الله الذي أنتم به مؤمنون».
في هاتين الآيتين يوجه الحق سبحانه وتعالى نداء إلى المؤمنين ينهاهم فيه عن تحريم الطيبات التي أحلها الله لهم ويأمرهم بأن يتمتعوا بما رزقهم من رزق طيب حلال.
وذكر المفسرون في سبب نزول هاتين الآيتين، روايات منها ما روي عن ابن عباس أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني إذا أكلت انتشرت للنساء، وأخذتني شهوتي فحرمت عليّ اللحم.. فأنزل الله تعالى: «يأيها الذين آمنوا لا تحرموا».. وفي رواية أخرى أن أناساً من أصحاب النبي همّوا بالخصاء وترك اللحم والنساء فنزلت هاتان الآيتان.. وقيل: نزلتا في رهط من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قالوا: «نقطع مذاكيرنا، ونترك شهوات الدنيا، ونسيح في الأرض كما تفعل الرهبان»، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فأرسل إليهم، فذكر لهم ذلك فقالوا: نعم، فقال النبي لهم: «لكني أصوم وأفطر وأصلي وأنام، وأنكح النساء، فمن أخذ بسنتي فهو مني، ومن لم يأخذ بسنتي فليس مني».
وقد وجه سبحانه النداء للمؤمنين بوصف الإيمان، لتحريك حرارة العقيدة في قلوبهم حتى يمتثلوا أوامر الله ونواهيه.. والمراد بقوله: «لا تحرموا» لا تعتقدوا تحريم ما أحل الله لكم من طيبات بأن تأخذوا على أنفسكم عهداً بعدم تناولها أو الانتفاع بها.
فالنهي عن التحريم- كما يقول د. غنايم- هنا ليس منصبّاً على الترك المجرد، فقد يترك الإنسان بعض الطيبات لأسباب تتعلق بالمرض أو غيره، وإنما هو منصب على اعتقاد أن هذه الطيبات يجب تركها ويأخذ الشخص على نفسه عهداً بذلك.
والمعنى: يا أيها الذين آمنوا بالله إيماناً حقاً لا تحرموا على أنفسكم شيئاً من الطيبات التي أحلها الله لكم، فإنه سبحانه لا يحب الذين يتجاوزون حدود شريعته.

لا حرج في الحلال

وبعد أن نهى سبحانه عن تحريم الطيبات أمر بتناولها والتمتع بها فقال: «وكلوا مما رزقكم الله حلالاً طيباً، واتقوا الله الذي أنتم به مؤمنون».
والأمر في قوله «وكلوا» للإباحة.. وقيل إنه للندب.. ويرى بعض العلماء إنه للوجوب لأن من الواجب على المؤمن ألا يترك أمراً أباحه الله تعالى تركاً مطلقاً لأن هذا الترك يكون من باب تحريم ما أحله الله.
أي: كلوا - أيها المؤمنون - من الرزق الحلال الطيب الذي رزقكم الله إياه وتفضل عليكم به «واتقوا الله الذي أنتم به مؤمنون» بأن تصونوا أنفسكم عن كل ما يغضبه وتلتزموا في مأكلكم ومشربكم وملبسكم وسائر شؤونكم حدود شريعته، وتوجيهات رسوله صلى الله عليه وسلم.
والمراد بالأكل هنا التمتع بألوان الطيبات التي أحلها الله، فيدخل فيه الشرب مما كان حلالاً، وكذلك يدخل فيه كل ما أباحه سبحانه من متعة طيبة تميل إليها النفوس وتشتهيها.
وقوله: «واتقوا الله الذي أنتم به مؤمنون» استدعاء التقوى وامتثال الوصية بوجه حسن.. والآية واضحة في أن أكل اللذائذ لا ينافي التقوى، وقد أكل النبي صلى الله عليه وسلم طيب اللحم ومدحه وكان يحب الحلوى.
يقول الإمام الطبري عند تفسيره لهذه الآية: لا يجوز لأحد من المسلمين تحريم شيء على نفسه مما أحل الله لعباده المؤمنين من طيبات المطاعم والملابس والمناكح، ولذلك رد النبي صلى الله عليه وسلم التبتل على ابن مظعون، فثبت أنه لا فضل في ترك شيء مما أحله الله لعباده، وأن الفضل والبر إنما هو في فعل ما ندب عباده إليه وعمل به رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنّه لأمته، واتبعه على منهاجه الأئمة الراشدون.
والخلاصة أن هاتين الآيتين تنهيان المؤمنين عن تحريم الطيبات التي أحلها الله لهم، وتأمرانهم بالتمتع بها من دون إسراف أو تقتير مع خشيتهم لله تعالى وشكره على ما وهبهم من نعم.
وذلك لأن ترك هذه الطيبات يؤدي إلى ضعف العقول والأجسام، والإسلام يريد من أتباعه أن يكونوا أقوياء في عقولهم وفي أجسادهم وفي سائر شؤونهم، لأن المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، كما جاء في الحديث الشريف.
التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"