عندما ضحك القمر

03:48 صباحا
قراءة 7 دقائق

** محمد إسماعيل زاهر

الطفل هو أبو الرجل، هكذا كان يرى الشاعر وليم وردزوث، الطفل يصنع الحياة، يشكلها في خياله ويهدمها أيضاً في ذلك الخيال، الطفل هو الأقدر على رؤية مفارقاتها، الطفل يمتلك عينين مختلفتين يدرك من خلالهما تلك الأبعاد المخفية التي تحيط بنا من دون أن ننتبه إليها، أو نتوقف عندها، الطفل حالة من التأمل العفوي، لا يتوقف عن طرح الأسئلة مهما بدت غريبة بالنسبة إلينا، ولكنها في غرائبيتها تلك تضع معارفنا وما استقر في أذهاننا على المحك، الطفل يعتقد دائماً أننا نحن الأغراب، إذ لا نستطيع أن نفهم منطقه.
في السادسة من عمره رسم أنطوان دو سانت أكزوبيري ثعبان بوا وهو يلتهم فيلا، جاء الرسم كما يورده في كتاب «الأمير الصغير»، لمن يشاهده من الخارج على شكل قبعة، أما لمن يحاول أن يغمض عينيه ويتخيل صورة أخرى فربما يرى هضبة أو معدة منفوخة، أو ثعبان بوا يلتهم فيلا، ولكننا بالتأكيد ولعوامل كثيرة تتعلق بالنضج، بالعقل، بالحواس، بالرغبة في الهروب من أحكام جمعية قد تطاردنا وتتهمنا بالجنون لا نفعل ذلك، فعندما ندرك القبعة على أساس أنها ثعبان يلتهم فيلا ندخل في حالة مستعادة من التخيل المنفلت من عقاله تذكرنا بطفولتنا جميعاً عندما كنا ننظر إلى القمر، فنراه يغمز لنا أو يضحك أو يعبس، كان كل طفل فينا يشاهد وجهاً مختلفاً للقمر، وعندما كبرنا توحدت الرؤية، اتسعت العبارة وتمدد المنطق، وتعطل الخيال، وأصبح القمر ذلك التابع الأرضي السخيف الذي ندركه في بُعد واحد، حالة شبيهة بهذه تعرض لها أكزوبيري الذي لا يزال قلب الطفل ينبض في صدره، في طفولته كلما عرض رسمه على أشخاص راشدين، وسألهم عمّا إذا كان الرسم يخيفهم، كانوا يجيبونه: «ولماذا تخيفنا قبعة؟»، انتظر أكزوبيري حتى كبر وأصبح طياراً، وذات يوم تعطلت طائرته في الصحراء، واضطر لكي يقضي فيها بضعة أيام، وفي الصحراء التقى مع الأمير الصغير، أجمل طفل وقعت عليه عيناه، وهو الوحيد الذي أعاد إليه قلبه الطفولي، إذ علق على لوحته قائلاً: «لماذا رسمت ثعبان بوا يلتهم فيلا؟».
لم يكتب أكزوبيري، قصة للأطفال، تلك التي أطلق عليها «الأمير الصغير»، وإن كان هذا أحد أبرز أهدافه بالفعل، لقد كان يكتب نفسه أولاً، يرصد تحولاته، يغوص في داخل وجدانه، يحاكم مسلماته، يسأل روحه باستمرار، ويسألنا أيضاً: ما الذي حدث؟ لم نعد ندرك العالم إلا كما هو، لم نعد نعرف إلا ما نستطيع أن نراه، ونلمسه، ونشمه، ونحس بثقله المباشر.
أول ما يطلبه الأمير الصغير من أكزوبيري أن يرسم له خروفاً، وكلما نفذ له ما يطلبه، لا يطابق الرسم ما يتخيله الأمير الصغير، حتى رسم الطيار صندوقاً صغيراً أعجب به الأمير، وهذا الصندوق يحوي بداخله الخروف، وفي الوقت نفسه يناسب كوكب الأمير المحدود المساحة.

الحكاء الصغير

في القصة تنقلب قواعد اللعبة، يتحول الأمير إلى الحكاء، والطيار إلى طفل صغير يستمع إلى ما يقصه عليه، الأمير يعيش في كويكب يحمل رقم 612، ضمن مجموعة كويكبات صغيرة جداً، هذا ما يخبرنا به الطيار كصوت يهيمن على خلفية الحدوتة، حتى نستطيع تخيل الأمير الصغير، أما لو أخبرنا أنه قابل طفلاً رائع الجمال يحمل صندوقاً صغيراً وبداخله خروف فإننا لن نصدقه، أو سندعي أنه يهلوس أو يتخيل ما لا وجود له. كوكب الأمير يتضمن عدة مصابيح و ثلاثة براكين، ينظف مداخنها بنفسه حتى لا تنفجر وتدمر الكوكب، ولا يتسع إلا لكرسي واحد يجلس عليه ويتأمل الغروب، كوكب الأمير تنبت فيه بذور شجر «الباوباب» وعليه أن يبحث عنها باستمرار، ليتخلص منها، فشجرة واحدة ربما تبتلع الكوكب، الأمير زرع على كوكبه زهرة، وها هو قد أخذ من الطيار الخروف، ولا يدري أي علاقة ستقوم بينهما عندما يعود إلى كوكبه، فالخروف قد يأكل الزهرة، حبيبة الأمير، كل ما يؤرقه سؤال: «أليس أمراً جدياً السعي لفهم سبب إرهاق الزهور لنفسها في صنع شوك لا فائدة منه؟ أليست الحرب بين الزهور والخراف مهمة؟ أليست أهم من عمليات الجمع التي ينفذها رجل بدين؟ وإذا كنت أنا أعرف زهرة فريدة لا وجود لها في أي مكان غير كوكبي يستطيع خروف صغير أن يبيدها ذات صباح دفعة واحدة، من دون أن ينتبه لما يفعل، أليس هذا مهماً؟».
وفي رحلاته التي قصها الأمير على الطيار سيقابل زهوراً أخرى، وسيعرف أن الكون يمتلئ بالأزهار، وأن زهرته ليست متفردة أو وحيدة، وأنها لو ماتت أو أكلها الخروف، فبإمكانه الحصول على عشرات غيرها، ولكن لن تستطيع أي زهرة أخرى أن تخطف قلبه، هو في حالة حنين دائم إلى زهرته الأولى، مهما كانت عادية، هي مغروزة بداخله.

التجول بين الكواكب

يتجول الأمير الصغير في بضعة كويكبات، في الأول يشاهد ملكاً يحتل عرشه معظم الكوكب، بحيث لا يجد الأمير مكاناً ليجلس عليه، الملك وحيد، ويعتقد أنه يحكم الكون بأكمله، يصدر أوامر غرائبية، فيذكره الأمير أنه إذا كان يريد أن يطاع فعليه أن يأمر بما يستطيع الآخر تنفيذه، وقبل أن يغادر يقرر الملك أن يجعل الأمير سفيراً له في كون الكويكبات التي يحكمها في وهمه، فهو في الحقيقة لا يحكم إلا مكانه شديد الصغر، فالكون أرحب وأوسع، وفيه متسع للجميع.
في الكويكب الثاني يقابل سكيراً ينكب على الشراب وعندما يسأله: لماذا يفعل ذلك، يرد عليه بأنه يشرب لكي ينسى الخزي الذي يشعر به، يغادره الأمير، وهو يقول: «الراشدون غريبو الأطوار حقاً»، في الكويكب الثالث يعثر على رجل أعمال يدعي أنه يمتلك خمسمئة مليون من النجوم، هو لا يفعل بها أو لها شيئاً، لا شيء يهيمن عليه سوى حب التملك، ولذلك يقول له الأمير غاضباً: «لكنك أنت غير مفيد للنجوم»، في الكويكب الرابع يلتقي عامل إضاءة كل همه إنارة مكانه الصغير، في الكويكب الخامس يستوقفه أحد الجغرافيين.
الأرض، ولا نعرف هنا هل يحكي الأمير أم الطيار، كوكب يضم مئة وأحد عشر ملكاً، وسبعة آلاف جغرافي، وتسعمئة ألف رجل أعمال، وثلاثمئة مليون مغرور، ظل الأمير سائحاً على كوكب الأرض لمدة عام، يتنقل بين الصحراء والمدن، والحدائق، حجمها كان بالنسبة له فتنة، ولكنه أيضاً كان مداراً لكل التناقضات التي لم يستطع عقل الأمير الصغير استيعابها، في تواجده على الأرض قابل الكثير من الحيوانات، وتعرف إلى الزهور و تحدث مع البشر، لا يوجد أي كائن يعرف ما يريد، يحدثه الثعلب قائلاً: «حياتي رتيبة، فأنا أصطاد الدجاج، والناس سيصطادوني. فكل الدجاج يتشابه، وكل الناس يتشابهون. وهذا يشعرني إذاً ببعض الملل أحياناً. أما لو دجّنتني، فستكون حياتي مرحة»، ثم يرجوه الثعلب أن يدجّنه، ثم يقول له لكي يغريه: «لم يعد للناس أصدقاء، إذا كنت ترغب في صديق فدجّنّي»، لا مكان للثعلب، ولا أصدقاء بين البشر، ولا علاقة حميمية في هذا الكوكب المتناهي في الكبر بين البشر والحيوانات، وبين البشر والطبيعة، ولذلك يفتقد الأمير الصغير كوكبه، حيث منزله الذي يخفي كنزاً لا يدركه أحد إلا هو.
ليس الكويكب الصغير أو المنزل هما ما يحتويان بالرغم من صغرهما على الكنز، ولكن أيضاً الصحراء الشاسعة المترامية الأطراف، يقول الطيار للأمير: إن ما يصنع جمال الصحراء أو النجوم «هو وجود شيء خفي فيها»، فالأهم في هذه الحياة «لا يرى»، وهو نفس درس الثعلب: «لا نبصر جيداً إلا بالقلب، والشيء المهم لا تراه الأعين»، والأطفال وحدهم يعرفون الحقيقة، يدركون مخبوء الأشياء، عندما يرونها دائماً مغايرة للشكل المتعارف عليه.

الكون في زهرة

كون الأمير كله يتوقف على زهرة، ذلك ما لا ندركه نحن الكبار، يختم أكزوبيري حكايته بالقول: «انظروا إلى السماء، وتساءلوا أأكل الخروف الزهرة؟ نعم أم لا؟ وسترون كم سيتغير كل شيء، وليس ثمة راشد واحد بإمكانه أن يفهم مدى أهمية هذا الأمر!».
عالم الأمير الصغير شديد البساطة، تلك قصة مكتوبة ليست للتسلية، أو للخروج بدرس تعليمي ما، أو توجيه نصح أو إرشاد، ولا تدعي الحكمة، هي قصة في المعرفة، في الرؤية، تستخدم ثيمة الفضاء والتجول بين الكواكب هي قصة تلامس وتراً شديد الخصوصية بداخل كل منا، فهناك في أمكنة لا يطلع عليها أحد في قلب كل إنسان قصة، قد لا تكون غرائبية، ولكن حياته ترتبط بها بشدة، قصة ربما تكون تقليدية، ولكن كل فرد يعيش بها ولها، حكايته التي ربما لا ألتفت أنا أو أنت إليها، لا تعنينا في قليل أو كثير، ولكنني أنا وأنت نضخم في خيالنا قصتنا تلك، نخلق منها كوناً صغيراً نسكن فيه في لحظات نركن فيها إلى أنفسنا، ونتأمل تلك القصة، مساراتها وتداعياتها، لا نشارك أحداً في تلك القصة، وكأننا ندخل إلى صندوقنا الصغير لنكتشف كنزنا.
إن كل أفكارنا، أسرارنا، كراهيتنا وحبنا، سعادتنا وأحزاننا.. وكل ما نمر به من مشاعر، تتضمن جانباً نود الاحتفاظ به لأنفسنا، ذلك ما يشعرنا بالتميز، ويمنحنا إنسانيتنا وقوتنا، وقدرتنا على الصمود، ذلك هو ما يجعلنا نقول: أنا أو نحن، فرادتنا هنا على المحك، فرادة مكونة من قصص ومشاعر وآراء شخصية، لا تعني أحداً آخر، قد يبدو كل هذا البناء بالنسبة لثقافة أخرى مثل القبعة التي لا تستوقف أحداً، وقد يبدو العكس تماماً، فوراء القبعة يكمن ثعبان التهم فيلا، المهم التمييز وأن نمتلك عيني الطفل، فداخل كل منا يجلس أمير، يتمنى أن يستعيد شعوره عندما كان يضحك إليه القمر في طفولته.


رغبة محمومة

لا يستطيع الأمير الصغير بعد التجول بين الكواكب البقاء في الأرض، وترك زهرته وحيدة في كويكبه من دون رعاية، فربما أكلها الخروف الذي رسمه له أكزوبيري، زهرته الخاصة، كنزه الذي لا يدرك أحد أهميته، ولذلك يقرر المغادرة، تاركاً مرارة للطيار الذي يحمل همّ الأمير، ورغبة محمومة في معرفة بقية قصته بعد أن سافر إلى دياره.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"