تغيّر المناخ . . مراوغة دولية

01:13 صباحا
قراءة 5 دقائق

دكتور مهندس: محمد مصطفى الخياط
بين اليأس والرجاء، والطموح والتحديات، تعقد- بل على الأدق تتأرجح - قمة الأمم المتحدة بشأن التغير المناخي في وارسو، فمازالت مرارة فشل قمة كوبنهاغن 2009 تسكن حلوق نشطاء البيئة وممثلي الدول شديدة الحساسية للتغيرات البيئية، يسترجعون معها عناء المفاوضات، وارتفاع سقف التوقعات، ثم سقوطه فجأة فوق الرؤوس متشظياً إلى إبر حادة يسيرون عليها حفاة في طريق معتم لا تبدو له نهاية، وعلى الجانب الآخر تربض الدول الصناعية متربصة بمحاولات إخضاعها منفردة لاتفاق تمتثل من خلاله لآليات خفض الانبعاثات، فتتحرك بحساب أقرب لسير قافلة من الثيران في معرض للخزف .
في هذه الأجواء، أطلقت القمة في وارسو بهدف عقد سلسلة من المفاوضات تمتد جولاتها لعامين لتحط رحالها- بعد ذلك - في باريس معقوداً عليها أمل توقيع اتفاق شامل من حيث الأهداف والآليات، بمعنى آخر بلورة اتفاق ملزم قانوناً لخفض انبعاثات الغازات الدفيئة يبدأ تطبيقه اعتباراً من عام 2020 .
من جهة أخرى، تعد إقامة المؤتمر في بولندا مفارقة من حيث المكان، حيث يعتمد نظام الطاقة بها على الفحم الحجري الرخيص والأكثر تلويثاً للبيئة . ولا تتوقف المفارقة عند هذا فحسب، بل سبق لبولندا معارضة الاتفاق الأوروبي حول مسألة انبعاثات الغازات الدفيئة .

الطريق من وارسو إلى باريس

تختلف مواقف الدول من إجراءات تغير المناخ طبقاً لهيكلية قطاع الطاقة فيها، فبزيادة الاعتماد على الوقود الأحفوري تزيد الانبعاثات، وبتفاوت معدلات النمو غير المستدام تمضي المفاوضات في دوائر وهمية من جانب الدول الصناعية أملاً في نتائج أفضل، وبين جولات المراوغة تتعلق مصائر الشعوب وبخاصة الأكثر فقراً والأشد حساسية لآثار تغير المناخ المنذر ببدء سنوات عجاف لا يعلم مداها إلا الله، وتصرخ الدول الجُزرية الواقعة في المحيطين الهادي والهندي - المهددة بالغرق حال ارتفاع منسوب المحيطات- أن مصيرنا يتعلق بارتفاع حرارة الأرض درجتين مئويتين .
في ذات السياق يطالب تكتل مجموعة ال 77 والصين والمكون من 130 دولة بضرورة تحمل الدول المتقدمة مسؤولياتها التاريخية في قضايا تغير المناخ، بما يسمح لاقتصادات هذه المجموعة بالنمو على الرغم من تباينها بشكل بارز .
في الجبهة المقابلة، تتباين مواقف تكتل الدول الصناعية المطالبة بخفض انبعاثاتها 5% عما كانت عليه عام 1990 طبقاً لبروتوكول كيوتو الذي رفضت أمريكا التصديق عليه، رغم مسؤوليتها عن 15% من الانبعاثات، وتراجعت اليابان مؤخراً عن وعودها بخفض انبعاثاتها، ليدوي في الأفق صفير إنذار مبكر عن مدى وعورة المفاوضات المنتظرة خلال العامين القادمين، وأيضا التساؤل حول مدى قدرة الدول الصناعية الوفاء بتعهداتها التي تعمل على خفض سقفها من جهة، ووضع التزامات على الدول النامية وبخاصة الصين والهند والبرازيل من جهة أخرى .
أيضا تأتي أهمية قمة وارسو وما يليها من نتائج مرتقبة خلال العامين القادمين، كرد فعل لاتفاق دربن 2011 بجنوب إفريقيا الذي ينص على تطبيق اتفاق 2015 على جميع الدول بعكس بروتوكول كيوتو الذي اقتصر على الدول الصناعية، سبقها الترويج في كوبنهاغن إلى إنشاء صندوق أخضر برأس مال 100 مليار دولار بحلول عام 2020 تزيد الشكوك يوما بعد يوم في سبل تمويله . وعلى الرغم من اتفاقنا على ضرورة تحمل الدول كافة لمسؤولياتها، إلا أننا مطالبون بالحذر إزاء آليات تحرك الدول الصناعية التي تمكنت في قمة بالي بإندونيسيا عام 2007 من "حشر" الدول النامية ضمن المسؤولية العالمية سعياً لتكبيلها بالالتزامات، في حين تتملص هي من مسؤولياتها التاريخية .
من ثم، يمكننا القول إن القمة الحالية وما يليها من مفاوضات سوف ترتفع درجة تعقيداتها يوماً بعد يوم، مقارنة بما سبق من جولات، فالدول النامية لا تريد وضع عنقها تحت مقصلة الاتفاقيات لتصبح بين ليلة وضحاها طريدة الالتزامات المالية، وهي التي ما فتئت تقترض لتدبر احتياجاتها الضرورية، أما الدول الصناعية فعينها على التخفف من التزاماتها، خاصة مع علمها بصعوبة التخفيض ما يفسر محاولاتها للتفلت ودعوتها الجميع للاصطفاف أمام المسؤولية البيئية، والترويج للبدء بتفعيل الإجراءات الوطنية الملائمة لمكافحة تغير المناخ والمعروفة اختصاراً باسم "NAMA"، والمعتمدة على تبني برامج طوعية وطنياً، في حين تعلم الصين المسؤولة عن 23% من الانبعاثات أن الضغوط عليها ستكون مباشرة وبلا مواربة .
من هنا، تصبح استراتيجيات التفاوض هي الحل السحري لتوازن القوى بين الطرفين، والتي ربما يتسع المجال لمقال منفصل بشأنها، وحتى ذلك الحين نؤكد أن مايو/أيار 2015 سيصبح علامة فارقة في سجل مفاوضات تغير المناخ، حيث تصدر مسودة الاتفاقية الملزمة لكافة دول العالم تمهيداً لاعتمادها في باريس نهاية العام .

متاعب على الطريق

اعتاد الإنسان التنبؤ إما قلقاً من حاضر أو شوقاً لمستقبل أفضل، وبتطور العلم قدمت علوم المستقبل نبوءات أكدتها الأيام عن احتياجات البشر وتطلعاتهم، ولكون الطاقة وشؤونها أموراً حيوية في حياة رجل اليوم وطفل الغد، تؤثر تراكيبها مباشرة في البيئة وحماية كوكب الأرض، فقد أعد "مجلس الطاقة العالمي" دراسة مستقبلية عن منظومة الطاقة بحلول عام 2050 تحت عنوان "بدائل طاقة العالم" عُرضت بشكل محوري في العديد من جلسات مؤتمر الطاقة العالمي في ضيافة مدينة دييغو بكوريا الجنوبية في أكتوبر/تشرين الأول الماضي، حيث تناولها بالتحليل والعرض العديد من رموز الطاقة في العالم من كافة المستويات .
وتشير نتائج الدراسة إلى ارتفاع الطاقة المستهلكة من 3 .1 إلى 1 .2 مليار طن مكافئ بترول عام ،2050 أي بزيادة مقدارها 61% عن الوضع الراهن، يهيمن عليها الوقود الأحفوري بقرابة 75%، ليس هذا فحسب إنما الصادم في الأمر يكمن في الدور الكبير المنتظر للفحم مستقبلياً، بما يعني ارتفاع معدلات انبعاثات غازات الدفيئة، كنتيجة مباشرة للزيادة المحمومة في الطلب على الطاقة من نحو 10 مليارات نسمة، لتصل نسبة ثاني أكسيد الكربون إلى 450 جزءاً لكل مليون على أحسن تقدير وليتحول السعي العالمي الهادف إلى تقليص غازات الصوبة الزجاجية بنسبة 50% بحلول عام 2050 إلى وهم .
من هذا المنطلق، تصبح برامج تحسين كفاءة استخدام الطاقة، وصياغة استراتيجيات وسياسات فعالة، وآليات تمويل مبتكرة تبنى بشكل رئيسي على البحث والتطوير أولوية قصوى للجميع، فالطاقة المتجددة تنحصر مساهماتها بين 30-40% بحلول منتصف القرن، يحدّ من نموها تطور تكنولوجيات استخراج النفط والغاز ليمتد أجل بدء انخفاض معدلاتهما، والاطمئنان إلى توافر الفحم، والمغامرة في البحث عن الغاز والنفط الصخريين، خاصة في الدول التي تتشابه تراكيبها الجيولوجية مع أمريكا التي استطاعت تحقيق نقلة نوعية في استخراج الغاز الصخري .
إن المؤشرات المستقبلية التي تضعها هذه الدراسة تزيد الشكوك حول ما تسعى إليه برامج البيئة بشأن مستقبل الاحترار العالمي، فخبراء البيئة يناشدون- بالأحرى يستجدون- العالم ألا تتخطى الزيادة الكونية لدرجة الحرارة خلال الأربعة عقود القادمة حاجز الدرجتين المئويتين، حفاظا على كوكب اعتلت صحته جراء ارتفاع حرارته حالياً بمقدار 8 .0 درجة مئوية، فأنى لهم هذا في ضوء نتائج تلك الدراسة؟
من هنا، يمكننا القول إن نتائج المباحثات القادمة بين كافة الأطراف، سوف تنعكس على البشرية لفترات وربما لعقود طويلة قادمة، ومع رغبة الجميع في إنجاحها - على الرغم من تباين المواقف بين الدول النامية والصناعية - تتولد في الأفق الإرادة في تحقيق إنجاز نوعي في باريس تلبية للدعوة التي أطلقتها فرنسا على لسان وزير خارجيتها - لوران فابيوس - خلال الدورة الثامنة عشرة لمؤتمر الأطراف بالدوحة في ديسمبر/كانون الأول ،2012 ومن اليوم وحتى ذلك الحين تصبح نتائج مؤتمر الأطراف التاسع عشر بوارسو وما يليه من مفاوضات النافذة التي ينظر العالم من خلالها على الطريق إلى باريس، الذي نتمنى أن يتسع للعالم أجمع، النامي والمتقدم، الفقير والغني، الأسمر والأبيض في ظل مشاركة عادلة تثبت أننا قادرون على العمل الفعال، فكلنا أبناء هذه الأرض الطيبة .

mohamed.elkhayat@yahoocom
www.energyandeconomy.com

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"