آفاق جائزة الشارقة للبحث النقدي التشكيلي

لامست الحداثة التصويرية العربية في مستوياتها النظرية والواقعية
05:20 صباحا
قراءة 8 دقائق

اندفع الواقع التشكيلي العربي كغيره من الفنون والآداب والمعارف الانسانية في القرن العشرين بالكثير من الاسئلة عن جدوى الحداثة وحتمية التطور وإشكالية النهضة وأزمة الهوية والتغريب والانتماء والأصالة وغيرها من العناوين، التي بدورها استنبتت اشكالات وقضايا لا تزال عالقة في بؤرة المشهد الحداثي العربي .

وعلى الجانب الاخر، وبالرغم من تطور حركة التشكيل على المستوى العربي وتقاطعها مع ما يحدث في الفنون الغربية، فإن ثمة أزمات يعاني منها النقد التشكيلي العربي، ولعل ابرزها يتعلق بطبيعة التشكيل نفسه ومحاكاته للنخبة فقط، حيث يعاني السواد الاعظم من الجمهور العربي من ضعف تلقيه لمجمل الطروحات في الساحة التشكيلية العربية، عدا عن عدم فهمه لكثير من المدارس والنظريات والأساليب التي لم تتعود حياته الداخلية وحياته البصرية ايضا على التعاطي معها .

إن فكرة تأسيس جائزة للبحث النقدي التشكيلي، تكتسب أهمية مضاعفة لجهة الإجابة عن مثل هذه الاسئلة الملحة، وهنا تنبع أهمية جائزة الشارقة للبحث النقدي التشكيلي التي تأسست في عام 2008 بمبادرة ودعم من صاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي عضو المجلس الاعلى حاكم الشارقة، هذه الجائزة التي تعتبر الاولى من نوعها على مستوى الوطن العربي، والتي تولي البحث الفني والبصري مكانته وتبرز الجهود المبذولة فيه من قبل الكتاب والنقاد والأكاديميين، كما تحاول ان تعلي من شأن النقد باعتباره موازيا ابداعيا للعملية الفنية .

ومنذ تأسيسها اهتمت هذه الجائزة بإبراز عدة محاور اهمها: (الريادة في الفنون التشكيلية العربية) وكان هذا عنوان دورتها الاولى، التي فاز بها في حينه ثلاثة اسماء عربية هي: التونسيان نزار شقرون عن بحثه (شاكر حسن آل سعيد: الحقيقة في الفن) والدكتور محمد بن حمودة عن بحثه (الريادية الفرنسية: توطين العمود الاكاديمي في تونس) والمصري الدكتور ياسر منجي عن بحثه (الريادة في الفنون التشكيلية والبصرية العربية: فكرة الريادة بين ثوابت التاريخ وتقلبات الفضاء البصري العربي) . ومن المحاور التي تطمح الجائزة الى ابرازها ايضا الاهتمام بالتجارب التشكيلية العربية واهم رواد الفن التشكيلي في الدول العربية واثر الفن التشكيلي العربي محليا وعالميا وموقع الفن التشكيلي العربي بين التجارب العالمية والنقد التشكيلي ومواكبته لحركة التشكيل العربي وغيرها من العناوين المشابهة .

في الدورة الثانية لهذه الجائزة والتي انتهت اعمالها في ديسمبر/كانون الأول من عام ،2009 فازت ثلاثة بحوث اكاديمية، تشترك في مضمونها البعيد وان اختلفت كلمات عناوينها، فهي شخصت مشكلات الحداثة البصرية العربية باعتبارها ما زالت ملتبسة وقاصرة عن تقديم مقاربات مقنعة ولا تنسجم مع واقع التلقي العربي، كما انها برغم كثرة التنظيرات التي قدمتها، لا تزال ليست اكثر من مجرد ظاهرة شكلانية لم تغص في العمق او تلامس جوانية الفضاء العربي بتاريخيته وهواجسه ومرجعياته .

ولإلقاء الضوء اكثر على طبيعة البحوث الفائزة بجائزة الشارقة للبحث النقدي التشكيلي في دورتها الثانية والتي ذهبت الى كل من الدكتور ياسر المنجي من مصر عن بحثه مشروع الحداثة الفنية العربية وسياق البوستمورتيم والباحث الدكتور منذر المطيبع من تونس عن الحداثة في الفنون التشكيلية العربية وصعوبة العدول الملازم لها، وإبراهيم الحيسن من المغرب عن بحثه أوهام الحداثة في الفن التشكيلي المغربي، نجد ان هذه الابحاث قد قاربت من حيث المبدأ بين الحداثة الغربية التي اعتبرت ابنة شرعية لسياقها التاريخي والاجتماعي والحداثة العربية التي وصفت بأنها تعتمد المبالغة وأحياناً تصفية الحسابات على حساب الحقيقة العلمية، وهذا ما اكده بحث د . ياسر منجي الذي حاز على المرتبة الاولى وبين كونها حداثة بطيئة ومحتشمة وتتصل بالانشغال المجاني بأسئلة الحداثة البصرية كما جاء في ورقة ابراهيم الحيسن أو كونها ما زالت حداثة تتموضع في هامش الحداثة الغربية، التي تمثل أي الغربية وحدة متكاملة من العناصر وتمثل نتاجا لترابط مختلف مكوناتها، فتشمل كل الميادين وكل المجالات، بحسب ما اشارت اليه ورقة الدكتور منذر المطيبع .

إن الوعي التشكيلي في القرن العشرين وتلك الاسئلة عن جدوى الحداثة وحتمية التطور واشكالية النهضة وأزمة الهوية، وغيرها من العناوين التي سبقت الاشارة اليها، ومناظرتها مع مشروع الحداثة الفنية العربية كانت مفاتيح مهمة في ورقة د . ياسر منجي الذي انطلق من توصيف القرن العشرين باعتباره قرن القرون في تاريخ الوعي العربي وإن مواده الوثائقية والتاريخية على اختلاف مجالاتها كفيلة بطرح عدد لا حصر له من النتائج والفروض وصياغة نظريات تأويلية قد تصل الى درجة التناقض بين بعضها البعض، وهذا ينطبق على الفنون التشكيلية والبصرية وما يوازيها ويتصل بها ويتفرع عنها، من خطابات ونصوص وإبداعات معنية بالتأريخ والتنظير والنقد والتقصي، فمنجي يرى أن القرن العشرين لم يكن محض انطلاقة تاريخية في بداياته كما اطمأن لذلك غالبية المؤرخين للفنون التشكيلية بمفهومها الحديث في الواقع العربي فقط، بل كان - بالدرجة الاولى قرناً حافلاً بالتداعيات اللاهثة والتحولات صاروخية الإيقاع، الى الدرجة التي أدت الى افراز مشهد فسيفسائي متباين التوجهات، على المستويين الابداعي والنظري في الواقع التشكيلي العربي، متباين الى الدرجة التي كفلت تجاور المتناقضات وتوازي المتضادات خلال العقود الاخيرة للقرن المذكور في السياق الفني بأسره، مما ادى بجميع ممثلي اطياف المحترف العربي - مع كثير من التعميم في اطلاق مثل هذه التسمية - الى استشراف القرن الحالي بالتطلع الى أفق من التحولات السائلة عديمة الإيقاع، غائمة الفلسفة فاقدة الوجهة والتوجه .

ولأن الواقع التشكيلي كان مفعماً بعشرات التوجهات والمذاهب والمدارس والجماعات الفنية، والتي ألقى كل منها بحجره على سطح بحيرة الوعي البصري، التي ظلت ساكنة مطمئنة بركودها لمئات من السنين . ولأن العلاقة بين التوجهات والمدارس والمذاهب والجماعات لم تتسم بسمة الثبات او الاعتدال فقد ولدت الكثير من القضايا النفسية والإنسانية كجدوى الحداثة وحتمية التطور وإشكالية النهضة وأزمة الهوية والتغريب والانتماء والاصالة التي ظلت معلقة في فضاء الواقع التشكيلي العربي حتى الآن، وصاغ منجي عدة اسئلة لكي تكون مفتتحاً لأفق الرؤية، التي استشرفها في باطن القرن العشرين - كما يقول - وتأتي اهميتها خصوصاً ما يتعلق منها (بالحداثة والهوية والانتماء) لكونها تتصدر القضايا الخلافية، وما تزال مسكوتاً عن مستواها العميق والأعظم من خطابها الجواني في الفضاء العربي العام، وقد كشف منجي عن معظم هذه الظواهر وحاول تحليل خاصياتها ودخل الى مواطن النسبية الكامنة في بعض الثقافات الفرعية التي تتشكل منها بنية الثقافة العربية الأم .

الوعي بالذات

وتوقفت ورقة د . منجي عند تعريف هيغل للحداثة التي صاغها انطلاقاً من الوعي الذاتي في سياق التاريخ وعرض لتجربة المحترف المصري ومصطلح البوستمورتيم وقال ان من التعسف تحديد منتصف الخمسينيات من القرن الفائت واعتباره تاريخاً يوثق للحداثة العربية التي لا تزال موضع استفهام سواء في ما يتعلق بالاسماء التي انتسبت لها او من حيث تأثيراتها في الفن، ذلك ان البحث الدقيق سوف يحيلنا الى مفاصل زمنية من التمرد الحداثي الذي يتعزز بكثير من الشواهد النحتية والرسومات التي تغوص في التراث العالمي ومنه التراث الشرقي بكل ما يحمله من مفاهيم روحانية وغيبية وإن نسبة الحداثة الى الغرب هو نوع من المغالاة التي لا تتحرى الدقة والموضوعية .

أما د . منذر المطيبع فحذا حذو منجي في تقديم دراسة تطبيقية من خلال استعراض تجربة ثلاثة اسماء تشكيلية عربية تمثل اتجاهات عديدة من الحداثة العربية التي في مجموعها تكتسب صفة النسبية، وتعكس واقع وتطلعات الامة العربية وتيايناتها السياسية والاجتماعية والفكرية، والاسماء هي منير كنعان ( مصر) ومهدي مطشر (العراق) وسمير التريكي (تونس) .

لكنه، أي - د . المطيبع- وإن بدا متفائلا بمستقبل الحداثة التشكيلية العربية، فقد اشار الى عدة مشكلات تتعلق بمدى وعينا في الساحة العربية للحاضر والمستقبل الذي يتوق الى تحقيق نوع من الحداثة التي قد تضاهي في مكانتها الحداثة الغربية، وكانت الاسماء المشار اليها في ورقته خير مثال على المقاربة التشكيلية في فضائها العربي والتي استنطقها الفنان من ثقافته الشخصية واصبحت طابعا يميز تجربته التي استفادت من خصائص الفنون التشكيلية الاسلامية في جانبها العفوي والتلقائي، كما هو حال التريكي على سبيل المثال، الذي يعنى بمجموعة من العناصر والثيمات والاشكال البارزة من المربعات والدوائر التي تعكس مفهوما رياضيا يعتمد لعبة التجسيم الهندسي للثيمات من اجل طرح مضامين قكرية وجمالية .

وخلص المطيبع الى التأكيد على انه بالرغم من كل هذه التجارب المتميزة إلا ان الواقع التشكيلي العربي ما زال يتموضع في هامش الحداثة الغربية .

من جهته انطلق ابراهيم الحيسن من تجارب بعض الفنانين المغاربة ومقاربتهم للسؤال الجوهري الذي يتعلق بالهوية الجمالية، بنوع من الوهم من خلال الاستقواء بالعلامات والرموز البصرية المستعارة من تربة الثقافة الشعبية، او من خلال استعمال حروفية ساذجة وفارغة من أي محتوى ثقافي، وجمالي الى جانب انتشار التصويرية الاستشراقية التي كرستها معايير خارجية كانت السبب في اختلاط الفن النخبوي الجاد بالفن الاستهلاكي المستنسخ .

ورأى الحيسن ان مظاهر الحداثة في التجربة التشكيلية المغربية ما زالت بطيئة ومحتشمة وذلك بالنظر الى عوامل كثيرة تتصل اساسا بالانشغال المجاني بأسئلة الحداثة البصرية والفشل في استيعاب وتطويع الاتجاهات الفنية والمبتكرة وتكييفها مع الحاجيات الإبداعية الملحة والضرورية، اضف الى ذلك ان الكثير من التشكيليين المغاربة كشفوا عن ضعف ملحوظ وعجز واضح عن تجاوز الوافد من التيارات الفنية الغربية المنبثقة من رحم فن اوروبي تمرد على تراثه التقليدي الذي ساد لأكثر من اربعة قرون . واكد الحيسن انه برغم القاعدة العامة التي تقول بأن ولوج العالمية والانخراط المثمر في الحداثة الفنية لا يتم عادة سوى من تلقاء المحلية وعدم التفريط في الخصوصية مع الانفتاح الصاحي والمعقلن على إبداعات وتجارب الاخرين، فإن الكثير من الاعمال التصويرية والتشكيلية المغربية المعاصرة قفزت على كل المراحل وتحولت الى خواء تشكيلي وإلى فن فارغ ومبتذل ذي مراجع ممزقة ومشوهة، في ما حاولت نتاجات فنية اخرى الاتجاه بجرأة ابداعية مغلفة بالخوف والتردد نحو تأكيد الهوية الجمالية الوطنية، ولكن من دون مدركات وقواعد بصرية قوية قادرة على تحصين الذات ومنح الشخصية الابداعية استقلاليتها المفترضة .

خلاصة الامر فإن جائزة الشارقة للبحث النقدي التشكيلي تقف في مقام الريادة والتفوق وتبتغي متابعة الأفكار المميزة وتحفيز البحث النقدي التخصصي في مجالات الفنون التشكيلية والبصرية، وهي قد بدأت فعلا في توثيق الحركة التشكيلية العربية عبر اشتغالات نقادها وايضا تشجيع المواهب النقدية الشابة والتعريف بها ورصد حركة النقد التشكيلي في المحترفات العربية وبناء الصلة بين المجتمع وفنونه عبر اللغة النقدية .

وفي سياق رؤيتها لتطور التشكيل العربي، فقد ظلت الجائزة على صلة وثيقة بأهم الابحاث التي تدرس تاريخية الفنون واثرها السوسيولوجي وقدرتها على توليد ديناميات بحث متواصلة مع العالم تعكس الأثر الانساني لحركة تشكيلية مزدهرة خصوصا تلك الابحاث التي لها علاقة بعلم اجتماع الفن وانثروبولوجيا الفن وتاريخ الفن .

وتسعى أمانة الجائزة لتحقيق خطتها الإعلامية والوصول إلى مختلف الجهات والهيئات والمؤسسات والأكاديميات والأفراد، بما يحقق استقطاباً مميزاً للمشاركات في هذه الدورة والدورات القادمة عبر مختلف وجهات النظر التي تعتمدها البحوث .

ريادة

جائزة الشارقة للبحث النقدي التشكيلي تقف في مقام الريادة والتفوق وتبتغي متابعة الأفكار المميزة وتحفيز البحث النقدي التخصصي في مجالات الفنون التشكيلية والبصرية، وهي قد بدأت فعلا في توثيق الحركة التشكيلية العربية عبر اشتغالات نقادها وايضا تشجيع المواهب النقدية الشابة والتعريف بها ورصد حركة النقد التشكيلي في المحترفات العربية وبناء الصلة بين المجتمع وفنونه عبر اللغة النقدية .

وفي سياق رؤيتها لتطور التشكيل العربي، فقد ظلت الجائزة على صلة وثيقة بأهم الابحاث التي تدرس تاريخية الفنون واثرها السوسيولوجي وقدرتها على توليد ديناميات بحث متواصلة مع العالم تعكس الأثر الانساني لحركة تشكيلية مزدهرة خصوصا تلك الابحاث التي لها علاقة بعلم اجتماع الفن وانثروبولوجيا الفن وتاريخ الفن .

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"