خيارات إيران المفتوحة للرد على العقوبات

00:42 صباحا
قراءة 9 دقائق

نجحت الولايات المتحدة في إصدار عقوبات جديدة مشددة ضد إيران هي الرابعة من نوعها بعد مشوار طويل من التفاوض الشاق مع الدول أعضاء مجلس الأمن وقبلها مع كل من روسيا والصين لإقناعهما بفرض العقوبات . لذلك فإن الملاحظة الأولى هنا هي أن ما صدر من عقوبات هو في نهاية الأمر محصلة مساومات صعبة خاضتها الولايات المتحدة مع كل من روسيا والصين أفقدتها ما كان يمكن وصفه بالأنياب وحولتها إلى عقوبات يمكن أن توصف بالمستأنسة حيث جرى استبعاد كل العقوبات التي كانت ستؤثر سلبياً في مصالح روسيا والصين وبالذات كل ما يخص قطاع الطاقة، وما بقي من هذه العقوبات لن يكون له التأثير الرادع في إيران الذي كانت تأمله الولايات المتحدة، وبالذات استهداف قطاع النفط والغاز الإيراني، وإدراج البنك المركزي على قائمة سوداء .

رغم ذلك ينبغي عدم الاستهانة بما تم فرضه من عقوبات فالقرار الذي صدر يشمل اتخاذ إجراءات ضد بنوك إيرانية جديدة في الخارج إذا ثارت شبهة حول صلتها بالبرنامج الصاروخي أو النووي، وإلى الحذر إزاء التعامل مع أي بنك إيراني، كما يوسع القرار نطاق حظر للتسلح تفرضه الأمم المتحدة على إيران، ويدرج ثلاث مؤسسات تابعة لشركة خطوط الجمهورية الإيرانية للشحن و15 مؤسسة تابعة للحرس الثوري الإيراني على قائمة سوداء .

كما يدعو القرار إلى إنشاء نظام للتفتيش على الشحنات مثل ذلك الذي يستعمل مع كوريا الشمالية . رغم ذلك فإن الأمريكيين يعترفون بأن هذه العقوبات ليست العقوبات المعوقة التي كانت تأملها الأطراف الأخرى في مجموعة 5+1 وعلى الأخص الولايات المتحدة .

أما الملاحظة الثانية فهي مردود هذه العقوبات، بمعنى ما هي العلاقة بين العقوبات والأهداف المأمولة من منظور التقدير الأمريكي إذا كانت هذه العقوبات ليست بالقوة التي كانت تريدها واشنطن، فالتقديرات الأولية تقول إن العقوبات التي صدرت لم تعد لها علاقة ذات معنى بالهدف الأساسي الذي صدرت من أجله وهو عرقلة تقدم البرنامج النووي الإيراني، أو على الأقل ارغام طهران على الرضوخ للشروط والمطالب التي تريدها مجموعة 5+1 التي تتزعمها الولايات المتحدة وأولها أن توقف إيران تخصيب اليورانيوم وثانيها أن تلتزم بالشفافية المطلوبة وتستجيب لمطالب الوكالة الدولية للطاقة الذرية وأن تقدم كل المستندات المطلوبة، وأن تفتح منشآتها النووية أمام المفتشين الدوليين دون قيد أو شرط .

إذا كان الأمر كذلك فإن السؤال المهم الآن هو ماذا بعد هذه العقوبات؟ هل ستصدر قرارات دولية بعقوبات جديدة؟ أم أن العقوبات ستصدر بعد ذلك اختيارية خاصة من جانب الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي الأكثر حماسة ضد إيران؟ وهل صدور العقوبات هذه المرة، بالشكل الذي صدرت، وبغياب الإجماع الدولي بعد رفض كل من تركيا والبرازيل قرار العقوبات وامتناع لبنان عن التصويت، سيكون المرة الأخيرة لصدور عقوبات دولية ضد إيران؟ وإلى أي مدى يمكن أن تفتح قرارات العقوبات تلك فرص تجديد الخيار العسكري الذي تريده إسرائيل؟

هذه الأسئلة في مجملها تبدو وكأنها مترددة في طرح سؤال يبدو بديهياً هو: هل يمكن أن يتكرر السيناريو العراقي مع إيران؟

التردد هنا أسبابه كثيرة أولها أن جراح السيناريو العراقي ما زالت دامية بالنسبة للولايات المتحدة الجريحة الآن في أفغانستان والعاجزة عن تحقيق انتصار ظلت تأمله، وما استبدال الجنرال ستانلي ماكريستال وإبعاده عن قيادة قوات حلف الأطلسي في أفغانستان بالجنرال ديفيد بترايوس قائد القوات الأمريكية السابقة في العراق وقائد القيادة المركزية الأمريكية حالياً إلا محاولة لتجديد أمل بالنصر يتداعى في أفغانستان المجاورة لإيران، وكان القدر قد جعل إيران الواقعة بين كل من أفغانستان والعراق شاهداً حياً على الفشل العسكري الأمريكي .

السبب الثاني، أن الخيار العسكري ضد إيران لن يحظى بأي دعم روسي أو صيني ولن يكون خياراً دولياً وربما لن يكون أمريكياً في ظل ما يواجه الولايات المتحدة من تحديات، ومن ثم سيبقى الخيار العسكري محصوراً في النطاق الضيق لمغامرة إسرائيلية مجنونة لا يستطيع أحد أن يؤكد فرص نجاحها .

من هنا تبدو الخيارات الأخرى وبالذات خيارات ممارسة الضغوط الأمريكية والأوروبية ضد إيران، مع اتجاه يدعم التصعيد في هذه العقوبات، لكنها ستبقى عقوبات اختيارية غير ملزمة للدول الأخرى خاصة روسيا والصين .

خيار العقوبات له إيجابية بالنسبة للولايات المتحدة وخاصة للإدارة الأمريكية التي تمر بفترة شديدة الصعوبة بالنسبة لمكانة الرئيس وتدني شعبيته لأسباب كثيرة منها الدور الذي يقوم به أنصار إسرائيل لإجباره على التراجع عن أي ضغوط محتملة على الحكومة الإسرائيلية إذا ما فشلت المفاوضات غير المباشرة مع الفلسطينيين .

تدني شعبية الرئيس الأمريكي هو الذي دفع الإدارة الأمريكية إلى اعتبار صدور قرار العقوبات ضد إيران انتصاراً أمريكياً . وهذا يعني أن العقوبات سيبقى مردودها معنوياً بالنسبة لهذه الإدارة، لكن المفعول الحقيقي سيبقى محدوداً وهنا مصدر السلبية . فإيران تسعى لإفشال فرص نجاح العقوبات من الناحية الاقتصادية، بمزيد من سياسات التقشف والاعتماد على الذات أولاً، وبالبحث عن بدائل كثيرة خارجية دون حاجة إلى التعامل المباشر تجنباً لقيود العقوبات خصوصاً أن إيران نجحت على مدى سنوات طويلة ماضية أن تتكيف مع العقوبات الأمريكية وأن تجد دائماً شركاء أجانب يقدمون لها ما تريد بما في ذلك الاحتياجات الخاصة بالمشروع النووي والصناعات العسكرية .

فتجربة إيران رائدة في نسج منظومة قوية ومترابطة من الشركاء غير المباشرين، فعلت ذلك نووياً وعسكرياً وقادرة أن تفعله اقتصادياً، وأن تحصل على كل احتياجاتها من الخارج رغم العقوبات . كما أن العقوبات قدمت للنظام الحاكم دعماً كان يريده في الداخل بمحاصرة ضغوط المعارضة الإصلاحية التي كانت تهدد استقرار النظام . ففي ظل العقوبات الجديدة لم يعد ممكناً أن تواصل المعارضة مواجهتها للنظام نظراً لأن تهمة الخيانة ستكون الرد المباشر من النظام .

على هذا النحو تستطيع أن تقول إن إيران سوف تستطيع الصمود أمام جولة العقوبات الجديدة وأن تتكيف مع أية عقوبات أخرى إضافية سواء كانت أمريكية أم أوروبية، لكن الصمود الإيراني له حدوده وله شروطه أيضاً .

فالاقتصاد الإيراني ربما يكون قادراً على خلق شركاء اقتصاديين جدد في مناطق عالمية أخرى غير أوروبا الشريك الأهم لإيران سواء في آسيا أو أمريكا اللاتينية وبعض الدول الإفريقية، لكن سيواجه عقبات صعبة في حال اصدار قرارات بعقوبات أوروبية وأمريكية جديدة قد تؤثر في اقتصادات وشركات الدول الصديقة لإيران، إذا لم تلتزم بتلك العقوبات .

كما أن إيران ستواجه حتماً تحديات جديدة تتعلق برصيدها المحدود من اليورانيوم في ظل القيود المفروضة الآن على استيراده من الخارج، وفي حال استمرار عمليات التخصيب لليورانيوم داخل إيران بالمعدلات الحالية، فالرصيد المتبقي من اليورانيوم الخام بات محدوداً وسيمثل قيداً ضاغطاً عليها في المستقبل القريب، ومع ذلك فإن سياسة الصمود أمام العقوبات ليست السياسة الوحيدة فأمام إيران سلسلة من السياسات سوف تسعى إليها أبرزها:

- تجديد التواصل مع كل من روسيا والصين والحرص على عدم تمكين واشنطن من خلق عداء بين إيران والشريكين الروسي والصيني .

إيران استطاعت أن تتكيف سريعاً مع التحول الطارئ في العلاقات مع روسيا والصين ولم تتورط في ردود فعل انفعالية ضد أي منهما، وهذه السياسة نجحت في تسريع وتيرة صدام المصالح بين روسيا والولايات المتحدة عقب إعلان واشنطن عن فرض عقوبات أخرى جديدة ضد إيران تفوق كثيراً ما تضمنه قرار العقوبات الصادر عن مجلس الأمن .

محاولة تهدئة التوترات مع دول الجوار خاصة الخليج ومصر، تحسباً لما هو قادم من تطورات تجربة التعاون المصري الإيران في مؤتمر المراجعة النووية ونجاح التنسيق العربي الإيران في هذا المؤتمر مع دول حركة عدم الانحياز والنجاح في الخروج بقرار هو الأول من نوعه الذي يطالب إسرائيل بالتوقيع على معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية والمشاركة في مؤتمر دولي عام 2012 لبحث نزاع الأسلحة النووية في إقليم الشرق الأوسط وجعله خالياً من أسلحة الدمار الشامل، هذه التجربة تحرص إيران على استثمارها الآن وتوظيفها لصالح موقف عربي داعم لإيران ضد أي تطورات غير متوقعة في مجرى المواجهة الغربية مع إيران .

اعطاء أهمية كبيرة للعلاقات مع كل من تركيا والبرازيل بعد نجاح إيران في جعل البلدين شريكين معها في إدارة أزمة ملفها النووي بقبول وساطتيهما في مسألة تبادل اليورانيوم وتوقيع اتفاق طهران الثلاثي معها .

الرفض الأمريكي الغربي لهذا الاتفاق وضع على تركيا والبرازيل مسؤولية أدبية في الدفاع عن إيران في المحافل الدولية حدث هذا في مجلس الأمن ويمكن أن يحدث في الوكالة الدولية للطاقة الذرية وغيرها من المحافل علاوة على تعويل إيران على تجاوز العقوبات بعلاقات تعاون اقتصادية مكثفة مع تركيا والبرازيل والعديد من دول أمريكا اللاتينية التي تعاني من سياسات أمريكية غر منصفة .

- أما سياسة الأهم فهي عدم قطع التواصل مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية، ولكن مع تعهد فتح صفحة جديدة بشروط إيرانية تجعل من إيران صاحبة حق لدى الوكالة بعد معاملة غير منصفة وغير متوازنة ضدها من مجلس الأمن أولاً ومن المدير العام للوكالة الدولية للطاقة الذرية ثانياً، الذي حرصت إيران على تعرية موقفه المناوئ لها داخل الوكالة والمنحاز لإسرائيل .

هذه البيانات والتوجهات الإيرانية لا تنفصل عن الموقف الإيراني الاستراتيجي المتمثل في التمسك بالسياسة النووية وبالذات سياسة تخصيب اليورانيوم واستخدام القدرة على رفع معدلات التخصيب إلى 20% وانتاج كميات كبيرة من اليورانيوم المخصب إلى هذه النسبة كورقة ضغط على مجموعة 5 +1 والوكالة الدولية للطاقة الذرية للعودة مجدداً إلى التفاوض على أرضية القبول باتفاق طهران النووي الثلاثي الذي يقضي بتبادل اليورانيوم الإيراني المخصب عند حدود 3،5% بآخر مخصب عند مستوى 20% على الأراضي التركية وبضمانات تركية برازيلية .

هذا التوجه إن نجح من شأنه أن يمتص موجة الانفعال الأمريكية الحالية وأن يهدئ من ردود الفعل المتصاعدة ضد إيران لدى الحلفاء الغربيين التي تراهن إيران على احتوائها كخطوة لاحتواء فرص إسرائيل في التصعيد التي تراها إيران منعدمة خاصة في ظل تطورات ثلاثة اقليمية مهمة .

التطور الأول يتعلق باهتزاز مكانة ومصداقية إسرائيل بعد جريمتها ضد أسطول الحرية، فإيران ترى أن إسرائيل التي تبدو منبوذة إقليمياً ومدانة دولياً لن يكون بمقدورها أن ترتكب حماقة شن حرب ضدها في هذه الآونة . إيران تعي هذه الحقيقة، لكنها تعي أيضاً أن إسرائيل ستفعل أقصى ما لديها لجعل الحرب خياراً محتملاً إن لم يكن ضرورياً، فهي رأت في قرار العقوبات الجديد تطوراً مهماً ليس كمجرد عقوبات ولكن كقرار دولي ترى أن هناك فرصاً لجعله واحداً من سلسلة قرارات محتملة، وخطوة لجعل ايران مستهدفة دولياً، ما يعني انها تستدعى، عقلياً على الأقل، السيناريو الدولي الذي اتخذ ضد العراق وبالذات تتابع صدور القرارات الدولية ضد إيران، لأن هذا يوفر ما تعتبره إسرائيل الآن بالشرعية الدولية اللازمة لشن حرب ضد إيران .

في الوقت نفسه تستعد إسرائيل عسكرياً بشكل دائم وتحصل من واشنطن على مخزون كبير من القنابل الذكية اللازمة لشن الحرب ضد إيران عندما تكون متاحة، ايران تعي ذلك وتتحسب له .

التطور الثاني: الفشل الأمريكي المتصاعد في أفغانستان، وردود فعله داخل الولايات المتحدة وخاصة ضد العسكريين الذين لن يقبلوا التورط في أي حرب جديدة خارج الأراضي الأمريكية في الأجل المنظور .

التطور الثالث: الانشغال الأمريكي بترتيب الأوضاع داخل العراق لتأمين انسحاب القوات الأمريكية من العراق دون تداعيات درامية، ونظراً لإدراك واشنطن أن الطموح إلى تحقيق ذلك لن يحدث من دون تفاهمات مع إيران فإنها لن تكون مستعدة للتورط في حرب ضد إيران .

فالمأزق الأمريكي الراهن في أفغانستان والحرص من جانب الرئيس الأمريكي باراك أوباما لتحقيق نصر قد يكون النصر الوحيد له، في افغانستان هو الذي دفع الإدارة الأمريكية إلى انسحاب أكثر من 60% من وحداتها القتالية العاملة في العراق قبل شهرين من الموعد النهائي الذي سيكون بمثابة مقدمة لانسحاب شامل للقوات نهاية العام 2011 . معظم هذه القوات ربما يتوجه إلى افغانستان، ولن يكون أمام الولايات المتحدة أية فرصة للتورط في انتشار عسكري جديد في أي مكان في العالم .

ولعل هذا ما جعل الادميرال مايك مولن رئيس هيئة الأركان الأمريكية يتوجه نحو إسرائيل بعد زيارة مهمة قام بها إلى أفغانستان، فزيارته إلى إسرائيل يراها البعض ضرورية لضبط السياسة الإسرائيلية والحيلولة دون قيام إسرائيل بتوريط الولايات المتحدة في حرب قريبة ضد إيران .

هذه التطورات تعد بمثابة ضمانات لإيران لتجنب فرص الخيار العسكري ما يجعلها أكثر قدرة على التكيف مع العقوبات الجديدة، وإيجاد الحلول اللازمة لها، وما يمكنها أيضاً من إدارة الحوار مع مجموعة 5+1 والوكالة الدولية بالشروط التي تراها هي ملائمة للمصالح الإيرانية، خصوصا ان تقديرات معظم مراكز البحوث والدراسات الدولية المتخصصة، وفي مقدمتها المركز الدولي للدراسات الاستراتيجية (لندن) ترى ان العقوبات لن تستطيع، في احسن الحالات، تحقيق ما يزيد على 30% فقط من التأثيرات المأمولة ضد إيران خصوصاً في ظل الخيارات العديدة المفتوحة أمام إيران للتكيف مع هذه العقوبات .

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"