متاهة القناع

03:06 صباحا
قراءة 7 دقائق

يوسف أبولوز


ربما أمكن القول أن الكتابة عن القناع.. تحتاج إلى قناع، أو تحتاج إلى أقنعة يُستدعى من خلالها ما يمكن أن يُحيل إلى القناع مثل: التقمّص، فالمُقنّع، أو المتقنِّع يقوم بتقمّص وجه أو شخصية أو كينونة بشرية أو حتى حيوانية بصورة، أو، بصور عدة مغايرة لحقيقة وجهه أو شخصيته أو كينونته، وهو تقمّص آنيّ، أو مؤقت، إذ سرعان ما يعود المُقنَّع إلى حقيقته وإلى صورته الأصلية بمجرّد أن ينتهي من دور التقمّص، أي بمجرّد أن يخلع القناع.

يُحيل القناع أيضاً إلى المواربة، والاختباء، واللعب، والفكاهة، بل ويحيل إلى التزييف، فكل مُقنّع هو مزيّف على نحو أخلاقي ما، واللجوء إلى ارتداء قناع هو نوع من الإخفاء:.. إخفاء الوجه أولاً الذي هو هوية الإنسان ومركّب شخصيته، غير أن القناع لا يخفي الوجه فقط، بل، ويخفي أيضاً اللغة البلاغية القصوى.. اللغة الفاضحة، والكاشفة، والناطقة التي تمتلكها العينان إذا كان القناع كاملاً ولا يترك للعينين إلاّ خطاً صغيراً للرؤية والمشاهدة.

تُرى، هل اخترع الجلّادون القناع الكامل الذي يخفي الرأس والوجه والعينين للذين يُحكمون بالإعدام بواسطة المقصلة؛ لكي لا يروا تلك النظرة الأخيرة الفاتكة، الهلعة، القاسية، الجامدة، الأزلية، في عيون من يُشنقون، وهم يجرجرون أرجلهم بالسلاسل الثقيلة ببطء، نحو الخشبة والحبل في لحظة مرعبة أخيرة؟

ربما... وربما أن القناع في لحظة الإعدام هو عزل مبدئي أوّلي للإنسان عن الحياة، وتطويعه في لحظة نفسية سريعة إلى مصيره الأخير. وبشيء من العنف والسادية المرضية، فالرجل الذي يُلبس المحكوم بالإعدام قناعه البرتقالي أو أيّاً كان لونه، هو رجل ينطوي على نفسية مختلفة كلياً عن نفسية أي شخص منّا أو مثلنا نحن الذين نكتب، ونقرأ عن الأقنعة مبتهجين بألوانها وموادّها وتدويرها الكاريكاتوري، ثم إلصاقها على الوجه أو إمساكها بالوجه، ليتحوّل الإنسان، وفي ثوانٍ إلى كائن آخر مُقنّع.. أو متقمّص.

الملثم

للقناع، أو للمقنّع، أكثر من اسم أيضاً، فهو الملثم، وهو المتنكّر، ولكل منهما وظيفته، فالملثم على سبيل المثال في التظاهرات والاحتجاجات الشعبية التي تندلع في الساحات والميادين والشوارع يلجأ إلى اللثام؛ لكي لا يتعرّف إليه رجل الأمن المقابل له، أو لكي لا يتعرّف إليه رجل الأمن المندس بين المتظاهرين ليصار إلى إلقاء القبض عليه في ما بعد.. أي عملياً أو رمزياً بعد خلع لثامه والتعرّف إلى هوية وجهه ولغة عينيه.

مُلَثّم الانتفاضات الشعبية يلجأ إلى لثامه هذا؛ ليتحاشى الغاز المسيّل للدموع، الذي أصبح اليوم في الاحتجاجات الشعبية العربية وغير العربية من باريس إلى طهران إلى بغداد إلى بيروت إلى الخرطوم غازاً عالمياً، أو غازاً أممياً هو قاسم مشترك بين هؤلاء المقنّعين إرادياً في ميادينهم المفتوحة على أمل الحرية أو أي أمل جميل آخر.

لكن هنا، صورة أخرى، جمالية، ثقافية، سياسية للملثم أو المقنّع الفلسطيني في انتفاضات شعب سمّيت أكثر من مرّة بانتفاضات الحجارة،

وسوف يظهر الملثم الفلسطيني بقناعه، وهو عادةً منديله أو كوفيّته المرقّطة بالأبيض والأسود.. سوف يظهر هذا المقنع أو الملثم وهو يلقي الحجارة باتجاه الجندي «الإسرائيلي» الأمر الذي يحفّز الشاعر على كتابة قصيدة بطلها هذا القناع الفلسطيني (الكوفية)، لا بل أكثر من ذلك، يتحوّل الملثم -رامي الحجارة- إلى بوستر حائطي عندما يكون شهيداً، وفي أثناء تشييعه إلى مثواه الأخير في موكب من الدموع والكبرياء، في الوقت نفسه يجري نزع لثام الشهيد تماماً، ليكون وجهه أخيراً هو الصورة الكلية البطولية في هذا المشهد الذي يكف عن كونه مشهداً جنائزياً.. بل هو مشهد احتفالي على نحو ما بلا أقنعة، إلا في حدود قصوى لأولئك المقنعين الذين يمشون بعيداً في آخر الجنازة، وهم في الوقت نفسه مرشحون إلى كونهم شهداء ذات يوم.

ولكن.. ماذا عن لثام قبائل الطوارق الأمازيغ التي تنتشر في صحراء ليبيا والجزائر ومالي والنيجر؟.. البعض يقول إن الطوارقي يتلثم لكي يحمي وجهه من غبار الصحراء، والبعض يقول إن عاراً لحق بأحد رجالاتهم في قديم الزمان، وغسلت هذا العار النسوة ولم يغسله الرجال الذين تلثّموا بعد ذلك، بينما بقيت النساء سافرات.. غير أن الروائي الليبي إبراهيم الكوني له رأي آخر.. يقول.. «.. اتخذ القوم اللثام لا حماية للرأس من عوامل الطبيعة كما يروّج الجهلاء، ولكن لإخفاء الفم.. لإخفاء عار الفم وهو اللسان، أي للحكم بالمنفى على عضلة لئيمة لا تُضبط..». ويسمى (اللثام) في الطوارقية «تاجلموست» وقماشه يُسمى: «الأشو»، وهو قماش أزرق نيلي، ثم قماش البوكار وهو لثام قطني أسود للرجال.

المتنكّر

آتي الآن إلى الاسم الآخر للمقنّع وهو المتنكّر، وهو شخص آخر مختلف تماماً عن المقنّع وعن الملثّم؛ إذ يرتبط التنكّر بفضاءات اجتماعية احتفالية في الكثير من الأحيان، وفي الحفلات التنكرية يختبئ «مجتمع» كامل من المتنكرين خلف أقنعة مهرجانية، ملوّنة، كاريكاتورية، وفي قلب هذا التنكّر يطلق المحتفلون العنان لأنفسهم ولنزواتهم، بل ولأمراضهم النفسية والاجتماعية، في جوّ من الاحتفالية الصاخبة التي ترتخي فيها كل عضلات الإنسان الأخلاقية في قلب الصخب والغموض والاكتشاف، إلى درجة أن بعض حفلات التنكّر تستمر لساعات طوال. يرقصون متنكّرين، يأكلون متنكّرين، يتحدثون إلى بعضهم متنكّرين، وفي كل الأحوال لا يجرؤ واحد منهم على خلع قناع الآخر؛ لأن اللعبة عندها تفقد متعتها. أو بالأحرى تفقد فكرتها الاجتماعية الجهنمية، ومن مكوّنات هذه الفكرة أن يتخلّص الاحتفالي التنكري من قشرته الخارجية الكاذبة. أن يتعرّى أو أن يصبح عارياً تماماً.. ليس عارياً من الثياب، بل عارياً من الضوابط الضاغطة عليه بفعل الثياب. إنه، فعلياً، يتنكّر إلى حقيقته، يتنكّر إلى طبيعته البشرية والأخلاقية.. هل يتحرر؟.. نعم، ولكنها حرية ميّتة، مهرجانية، آنية، والأرجح أنه يشعر بعد هذا الحفل التنكري بنوع من الاكتئاب الذي يلي عادة الاحتفالات الصاخبة، حيث يعود الإنسان إلى فرديته المعزولة، ووحدته، بل، وحشته، وربما.. وحشيته.

ولكن هل يحتاج المتنكّر دائماً إلى قناع؟.. بسرعة لا. فهو ليس مقنّعاً، ولا ملثماً. إنه يلعب لعبة مسرحية على نحو ما، ولو أن المتنكّر الذي ينوي الهرب من شخصيته أو من أحد يطارده وضع قناعاً أو لثاماً لانكشف أمره، وباء تنكّره بالفشل، هكذا، عندما حاولت الملكة ماري أنطوانيت وزوجها الملك لويس السادس عشر الهرب من فرنسا في العام 1791 بعد إفشائها أسراراً عسكرية متنكّرة كادت أن تنجح محاولة الفرار هذه، لولا أن رجلاً عرف الملك من خلال صورته المطبوعة على العملة الورقية، وعندما زارت الإمبراطورة «أوجيني كوتسه» مصر في العام 1905 بعد حنينها إلى زيارتها الأولى للسويس في حفل افتتاح القناة وكانت يافعة شابة.. عمدت، هذه المرة، وقد ذبل جمالها إلى التنكّر وهي إمبراطورة عجوز، والأمثلة كثيرة لمن يريد العودة إلى التاريخ السياسي في العالم بوجه خاص، فكم من زعيم أو قائد أو عسكري أو سياسي لجأ إلى التنكّر لينجو بجلده من موت محتّم.

استعارات

استعار بعض علماء الاجتماع مصطلحاتهم من مفهوم أو فكرة (القناع) مثل مصطلح «البطالة المقنّعة»، وتعني مجموعة من الموظفين أو العاملين تتقاضى رواتب من الدولة أو من المؤسسات ولا تتناسب هذه الرواتب مع الإنتاجية العامة التي يقدّمها هؤلاء الموظفون، أي أن الوظيفة الحكومية هنا هي مجرّد (قناع)، فالموظف البطّال (الدجّال) من هذا النوع مثله مثل العاطل عن العمل، أو الذي لم يجد عملاً ويعيش حالة بطالة، ولكن من دون قناع.

الأدب أيضاً استعار من فكرة (القناع)، ناظم حكمت ومحنته السياسية والوجودية عند الشاعر عبدالوهاب البياتي قناع، وزرقاء اليمامة عند أمل دنقل قناع،.. الحلّاج ومأساته وتجربته الروحية والصوفية عند الشاعر صلاح عبدالصبور قناع، المتنبي بكل غروره وحلمه المكسور في إمارة هي بالنسبة إليه أكبر من إمارة الشعر هو قناع في بعض شعر محمد الفيتوري الذي يخاطب المتنبي:

يمرّ غيرك فيها وهو محتضرٌ

لا برقَ يخطف عينيه ولا مطر

وأنت.. لا أسأل التاريخ عن هرمٍ

في ظلّه قمم التاريخ تنتظرُ

في موضوعات شعرية كثيرة تتصل بالحرية، والعدالة، والمساواة، وكرامة الإنسان، وحقه في العيش بكرامة، والتعبير بكرامة، يعمد الشعراء بشكل خاص إلى استدعاء رموز وطنية وتاريخية وبطولية وإنسانية بوصفها أقنعة، والقناع في هذه الحال يمكّن الشاعر من الكتابة بحرّية أكثر من دون مساءلة سياسية أو قانونية في ما إذا كتب شعره على نحو مباشر ولم يستخدم الإسقاط الرمزي الذي يوفّره له القناع.

الاسم مراوغاً

هل يمكن أن نصف الاسم المستعار.. قناعاً؟.. نعم يمكن، والأمثلة كثيرة.. «نيفتالي رييس باسكالتو» هو الاسم الحقيقي للشاعر التشيلي «بابلو نيرودا»، والاسم الحقيقي للشاعر الفرنسي «سان جون بيرس» هو «أليكس سان ليجر ليجر»، والاسم الحقيقي للشاعر الأردني «أمجد ناصر» هو «يحيى النميري»، واستخدم الشاعر الأردني مصطفى وهبي التل اسماً مستعاراً هو «عرار». والمتنبي نفسه اسم مستعار أو أنه لُقّب بالمتنبي، وتذكر بعض المصادر «مادة للكاتب بشار منافيخي» أن فولتير اتخذ له 160 اسماً مستعاراً، أما البرتغالي فرينادو بيسوا فكتب تحت عشرات الأسماء المستعارة.

فرناندو بيساوا.. مثال جوهري على الأقنعة المتعددة للشاعر أو للكاتب عموماً، وهي في الوقت نفسه لعبة أشبه بلعبة التخفّي. لعبة أقنعة بامتياز تضع القارئ في موقف الاختبار، فأين نجد «بيساوا» الحقيقي، على سبيل المثال في الكم الهائل من الكتابات التي اكتشفت بعد موته وقد خزنها في عدد من الحقائب وتضم نحو 25000 مخطوطة.

لعبة تخفــي، ولعبـــة أقنعــــة في الوقت نفســــه يســـــتعذبها أو يستلذها الكاتب وهو على قيد الحياة، إذ يترك قارئه في متاهة الأقنعة، ومتاهة البحث عن كاتبه الحقيقي.

ولكن، ولكي نغلق دائرة المتاهة.. لماذا يذهب بعض الكتّاب إلى الاسم المستعار بوصفه قناعاً؟، لماذا الهرب من الاسم الحقيقي؟.. هل بدافع الانقلاب على الاسم الذي يجرّ وراءه أسماء أخرى للقبيلة وسلطة العائلة كما يبالغ في هذا الطرح بعض الكتّاب العرب، أم أن الكاتب الذي يرتدي اسماً قناعاً يودّ الهرب من سلطة سياسية تطارده على الهوية وتتعقب أوراقه الثبوتية من وقت إلى آخر؟.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"