"رواق البلقاء" ترميم الذاكرة

مؤسسه يصل ما انقطع بين الأجيال
03:29 صباحا
قراءة 4 دقائق
عمّان - ماهر عريف:
في مدينة "الفحيص" غربي العاصمة الأردنية عمّان ثمّة مبنى تراثي يحمل مسمى "رواق البلقاء" يطل على بيوت قديمة ومنذ ولوجه يتضح عبر أركانه اهتمامات القائمين عليه في شؤون الترميم والتوثيق والفنون التشكيلية والمحافظة على الآثار عبر فعاليات ميدانية عديدة انعكست على المكان بأكمله . وبعدما يقابلك مؤسس الرواق خلدون الداوود بابتسامة ترحاب يُبادر بنفسه إلى طرح مجموعة أسئلة "تشغل" فكره تدور حول هاجس الفجوة بين جيل أبنائه من جهة ووالده وأجداده من ناحية و"التسارع" الذي يدهشه في "توّغل" مستجدات الحياة في كل شيء مبدياً خوفاً عميقاً حول مآل الأمور حال عدم التمسّك بثوابت عمادها "من ليس له أوّل ليس له تالٍ" .
وخلال حديثه يتنقل الداوود بين أروقة داخلية مادتها الحجارة الأصيلة ولوحات تشكيلية وصور فوتوغرافية تدل على جمعه فنوناً ليس خارجها التصميم والمعمار أيضاً بما ينسحب على أولاده الثلاثة "شادي" و"فادي" و"لؤي" وشقيقته "سهى" وعدد من أصدقائه قبل أن يفتح صندوق إصدارات طرحها بنفسه تتناول حكايات الأماكن وكنوزها وعلاقاتها الإنسانية، فضلاً عن مقاطع فيديو تسجّل لقاءات عفوية أجراها مع شخصيات معروفة استضافها في الرواق بينها محمود درويش وأدونيس وجورج البهجوري وأنطوان كرباج وسواهم .
من عند الحجر الأول للرواق عام 1992 يبدأ الخمسيني خلدون الداوود الحكاية قائلا: الأسئلة المقلقة حول الخوف من ضياع التراث أو تناثره كانت هاجسي على الدوام منذ الصبا لاسيما أنني تربيت في بيئة حافلة بمنابت العراقة التاريخية وتربطني علاقة وطيدة مع الحجر وعندما قررت إطلاق فكرة عملية تخدم ترميم المبان القديمة في المدينة بالتعاون مع مهندسين وفنيين اخترت مقراً يتناسب مع الأمر بقصد السكن أساساً ثم أصبح ملاذاً للعمل والأنشطة ووجدتني "مجبولاً" أكثر من دون فواصل . ويتابع: تحرّكت ومن معي في البداية ضد تداعيات تهدّم بعض البيوت التراثية بسبب بناء مصنع محاذٍ للأسمنت ضمن المدينة وعملت على إقناع أصحاب الأملاك المهملة تقريباً بإعادة ترميمها لأنها تمثل جزءاً من تاريخ المكان برمته وقد وجدت تجاوباً أحياناً وصداً أحايين لأن الغاية الأساسية الغالبة تمثلت في تحقيق ربح وليس المحافظة على آثار قائمة .
الداوود وحسب سجلات الأداء لديه تمكن من ترميم 15 مبنى بينها السوق القديمة وأعمدة دور عبادة تأخذ نموذج المتاحف وبيوت مهجورة حولتها البلدية إلى "مكاره" صحية من دون اهتمامها بداية بالمبادرة التي اعتبرتها "غير مجدية" قبل تعاونها لاحقاً عقب لمسها التغيير وجذب سيّاح إلى المدينة قصدوا المواقع بوصفها مزاراً تراثياً .
يسترسل: أثق بمفهوم "الحارة" الاجتماعية العربية بمرتكزاتها الصحيحة التي نشأنا عليها وليست التي صدّرتها لنا الدراما التلفزيونية بوصفها ملتقى "الفتوّة" و"الحيلة" والنميمة النسائية واعتقد أن اللبنة السليمة تقود إلى وطن متماسك وهذا يبدأ من خلال علاقتنا مع البيت على أنه هويتنا انعكاس حقيقي لكل فرد فيه . . إنه باختصار نحن كما على صورتنا الواقعية .
ويعتقد الداوود أن مشروع الترميم نجح في نطاقه داخل "الفحيص" والدليل لديه على ذلك مشاركة شباب وطلبة جامعات في التجربة سواء عبر التفاعل مع محاضرات مخصصة لذلك أو الانضمام للعمل يدوياً في مناسبات عدة لكنه في المقابل يأسف لعدم انتشار الأمر خارج مدينته بصورة موسّعة ويرجع السبب الرئيس إلى قلة تجاوب جهات ذات صلة في مقدمتها القطاع الخاص وربما "تكاسل" بعض المعنيين في تطوير التجربة .
يستطرد قائلا: انتقلنا حسب تسلسل المشاريع الرئيسة التي طرحها الرواق إلى تنظيم ورش في فنون تشكيلية ترتبط بالفكرة الأساس حول العلاقة مع الماضي جهة المستقبل، فضلاً عن إنجاز أفلام قصيرة في هذا الإطار وعرضها في مناسبات عدة تزامناً مع استضافة لوحات وأعمال سندها التربة والحجارة غالباً ترجمت أحياناً مضامين كتب نشرتها تناولت قصص الحياة في مدينة مأدبا الجنوبية والبتراء والعقبة وأحضّر حالياً لآخر عن البحر الميت . ويعلق: لا أجد في طرحنا كتاباً جديداً حول الخبز واكب معرضاً بهذا الشأن أمر غريب لأن دورة صناعة الخبز تقترب من العلاقة مع منشأ الأساسات في حياتنا فهي تدل على اللبنة الأولى وتأتي من القمح حيث البيئة الصافية الخالية من تلوّث الزمن .
ويستدرك كأنه تيقظ لأمر مهم في قوله: يجب أن نخرج من مركزية العواصم في نشر الفعاليات والأنشطة والثقافات المساهمة في انخراط الناس لأن الحاجة في الأطراف والمناطق الخارجة عن المحور أكبر وأهم وأجدى .
وبشأن مأخذ تحوّل الرواق إلى تجمّع أسري من خلال عرض أعمال لأبنائه وتولي شقيقته إدارة بعض البرامج يرد الداوود: لا أجده أمراً سلبياً فأنا مع العائلات الفنية المنتجة وهي تدفع إلى التماسك والإنتاج بحرفية جماعية وأولادي الثلاثة درسوا الفنون في الجامعة وكنت حريصاً على مجالستهم شخصيات متخصصة منذ الصغر والنهل من تاريخها وتجاربها وهذا أسهم بلا شك في اتضاح بوصلة طريقهم بين الرسم وتنفيذ أفلام وثائقية وتسجيلية والإخراج .
أخيراً وقبيل مغادرة المكان كان السؤال عن علاقته القديمة مع الكاميرا الفوتوغرافية، فسحب الداوود ألبوماً كبيراً من الصور قال إنه واحد من مجموعة لا يذكر عددها وعند مطالعة ما بداخله عاد بذاكرته إلى الوراء مع حديثه عن "لقطات" أخذها لأمراء ورؤساء وزراء وشعراء وأدباء وفنانين عرب . وعلق: إنني أعيد "ترميم" نفسي كلما راجعت محطات عدة في حياتي المهنية .
التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"