لحظة يأس

01:59 صباحا
قراءة 3 دقائق
علاء الدين محمود

توقف الأديب الكبير نجيب محفوظ عن الكتابة لمدة تقارب السبع سنوات، وهو نفسه لم يجد تفسيراً قاطعاً لحالة الصمت التي دخل فيها، خلال الفترة من 1952 إلى 1959؛ حيث كان للواقع الاجتماعي والسياسي لمصر، الدور الكبير في صيامه الطويل عن الإبداع، فالكاتب هو ابن الواقع، وما يجري في المجتمع من تفاصيل يومية ومشاكل، ولأنه شديد الحساسية، فإن وقع المتغيرات عليه تكون كبيرة، وتقود في أحيان كثيرة إلى توقفه عن الكتابة، خاصة في مجال الإبداع الروائي والقصصي، غير أن الأسباب ربما تختلف من مبدع إلى آخر، فهي قد تكون غير واضحة وغامضة؛ لكنها تشير إلى لحظة خواء نفسي كبير، وفراغ روحي عريض، لا يستطيع معه الكاتب على عملية التأليف وإنتاج الأدب، فالأديب أو ربما حتى المفكر، يشعر باليأس والإحباط والقلق، خاصة في عصرنا الحالي الذي تسود فيه الفردانية وحياة العزلة، فيدخل في تلك الحالة الغريبة؛ أي التوقف عن النشاط الإبداعي، وقد لاحظ بعض النقاد أن الكثير من الكتّاب الذين صاروا عاجزين عن الكتابة، قد لجأوا إلى أطباء نفسيين نصحوهم بالراحة التامة، فقد فسروا عملية عدم المقدرة على التأليف بالقلق الشديد والجهد النفسي والبدني والفكري المبذول في التأليف، وهو الأمر الذي يتطلب أوقاتاً من عدم الكتابة والتقليل من التفكير.

وقد ذكر بعض النقاد إلى جانب بعض المهتمين بالكتابة الإبداعية، أن الدخول في حالة أو مرحلة السكوت الكتابي مسألة عادية ومهمة، ويشبهها بعضهم بلحظات الصمت في المسرح، فهي تعد الكاتب لقول جديد، أو ربما ينتج عنها حدوث منعطف وتحول مختلف للمؤلف جهة اكتشافه لأفكار جديدة، أو أسلوب مختلف أو أدوات غير التي كان يشتغل بها في الكتابة؛ حيث إن لحظة الصمت لها أهميتها؛ وذلك ما أكده نجيب محفوظ نفسه بعد توقفه الطويل، عندما ذكر بأنه قد شعر بفرحة كبيرة عندما تحركت فيه الرغبة في الكتابة مجدداً، وهنالك الكثيرون، مثل نجيب محفوظ، قد عادوا بعد السكون الإبداعي أكثر توهجاً وقلقاً، ليفجروا مفاجآت في ساحة الكتابة، ولكن بالمقابل استسلم آخرون إلى صمت دائم؛ بعد أن توقفت فيهم رغبة الكتابة بصورة نهائية، وهي حالة أشبه بالموت؛ حيث إن الكاتب يفقد أي إحساس بالحياة، والواقع أن بعض الكتّاب يرون أن من أكثر الدوافع في التوقف عن الإبداع هو الشعور بعبثية الحياة نفسها، وشعور الأدباء بأن ما يقومون به هو بلا قيمة ولا طائل، فالحياة موحشة جداً، والكتابة الإبداعية هي محاولة لتجميل هذا البؤس، حتى تأتي لحظة يشعر فيها الروائي أو الشاعر باليأس المطلق.

والتوقف عن الكتابة لا يمكن تفسيره بنضوب المعين، أو الإفلاس الفكري والإبداعي فقط؛ بل هو حالة نفسية معقدة جداً، وهنالك العديد من الكتّاب العالميين الذي دخلوا في تجربة الصمت الإبداعي المؤقت والمستمر لأسباب مختلفة، فبعد أن أنتج الأديب الأمريكي، جي دي سالينجر، رائعته «الحارس في حقل الشوفان»، في عام 1951، لم يستطع أن ينتج إلا قصة قصيرة، طوال خمسين عاماً مما تبقى من حياته؛ حيث دخل في سكوت أبدي حتى وفاته، وكذلك الأمر بالنسبة للأمريكي جوزيف ميتشل، الذي صمت نهائياً حتى تاريخ وفاته عام 1996، وأيضاً هنالك البريطاني إي. إم. فورستر، الذي توقف بالكامل عن التأليف؛ بعد أن أكمل روايته «الطريق إلى الهند»، على الرغم من أنه قد عاش بعدها حياة ممتدة، وهو ذات الأمر الذي حدث للكاتب الأرجنتيني أنريكه بانش، صاحب الرواية الخالدة «صندوق الاقتراع»، ليدخل بعدها في سكوت دائم لبقية حياته، ولعل القارئ قد يصاب بالدهشة عندما يعلم أن شاعر فرنسا العظيم رامبو، قد قام بتأليف كل نصوصه الشعرية والنثرية في وقت قصير جداً، ليهجر بعدها الكتابة وهو في سن ال19 من عمره فقط، ولم يكتب أي شيء بعدها.

ولعل ما يجمع بين كل هؤلاء الذين أشرنا إليهم، هو المعاناة وأوجاع الحياة والتمرد الاجتماعي، فقد صاروا في لحظة ما في مواجهة المجتمع بما يحمله من تقاليد وعادات، وما يحملونه هم من اختلاف، ولئن كانت قسوة الحياة وما تسربه من مشاعر اليأس والإحباط والعبث في نفس الكتّاب سبباً لهجرهم الكتابة؛ فإن بعضهم قد توقف؛ بسبب المرض أو الجنون مثلما حدث مع العديد من الأدباء الكبار مثل شاعر ألمانيا الشهير فريدريش هولدرين، وغيره من العباقرة، ولكن تبقى حالة الصمت الإبداعي صعبة وعصية على التفسير.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"